أقلام الثبات
قبل 102 عاماً من الآن ، وفي الثاني من تشرين الثاني من العام 1917 صدر تصريح وزير خارجية بريطانيا ، آرثر جيمس بلفور المشؤوم ، بنصه الشهير الذي وجهه ل" لورد روتشيلد " بالقول : " إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في بلد أخر " .
إننا معنيون كفلسطينيين وعرب ومسلمين ، ألاّ نتوقف عند التصريح - الوعد بالشكل المجرد ، وعلينا أن نُدرك أولاّ ، أنّ وعداً بكلماته أل 117 كلمة قد زورّ تاريخ وجغرافيا منطقة بالكامل ، واقتلع شعباً من أرضه من دون حق أو سند قانوني أو أخلاقي ، ليُزرع مكانه شعب أُخترعّ ، وعُملّ على استجلابه من كل أصقاع الدنيا برواية زُيفت بمعنييها التاريخي والديني ، في تطبيق لمقولة ( وعد من لا يملك لمن لا يستحق ) . وهذا ما دفع المؤرخ الكبير ( ارنولد توينبي ) إلى إدانة بلاده على تقديم وعد بلفور للحركة الصهيونية ، معلناً انه كإنكليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة . وعلينا ثانياً أن نتتبع السياق التاريخي الذي أوصل إلى تبني حكومة جلالة الملكة في بريطانيا هذا التصريح الوعد ، منذ ما قبل أن تقوم بريطانيا الاستعمارية بوضع فلسطين تحت سلطة انتدابها أو وصايتها ، الذي ومن المؤكد أنه جاء بهدف تسهيل سيطرة الحركة الصهيونية وقطعان المهاجرين اليهود على فلسطين .
بعد أن حُسمت السيطرة داخل الحركة الصهيونية لجناح الصهيونية السياسية بقيادة الإرهابي " تيودور هرتزل " ، تمّ تحديد الخيارات الصهيونية ، ومفادها أن حل المسألة اليهودية لن يتم بالهجرة والاستيطان فقط ، وإنما أيضا بمساعدة واعتراف دوليين . ولأجل حسم هذه الخيارات وتكريس توجهها في السيطرة على فلسطين ، كانت الحركة الصهيونية قد عقدت 11 مؤتمراً لها . وهذا ما عبر عنه " هرتزل " في المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899 بالقول : " تتجه مساعينا صوب الحصول على براءةٍ من الحكومة التركية بحيث تأتي هذه البراءة في ظل سيادة صاحب الجلالة السلطان العثماني . وحين تصبح هذه البراءة في حوزتنا ، شرط أن تشتمل على الضمانات القانونية العامة اللازمة ، يمكننا آنذاك الشروع في استعمارٍ عملي واسع النطاق . وسوف نجلب للحكومة التركية منافع كبرى لقاء منحها إيانا هذه البراءة " .
في عام 1908 قدم الوزير البريطاني ( هربرت صاموئيل ، وهو سياسي بريطاني يهودي ، وأول مندوب سامِ بريطاني في فلسطين) ، مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا شارحاً ما ستجنيه بريطانيا من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي والقريبة من قناة السويس . وقد وافق العديد من سياسيي بريطانيا على هذه المذكرة ومن بينهم ( لويد جورج وآرثر بلفور ) . وقد صدر تصريح بلفور الذي شكّل محطة رئيسية في تاريخ الاستيطان الصهيوني ، وبالتالي القضية الفلسطينية ، في سياق الحرب العالمية الأولى ، بأسبابها وأهدافها ، حيث عقدت خلال الحرب العالمية الأولى عدة لقاءات سرية بين الحكومة البريطانية وزعماء الحركة الصهيونية للوصول إلى اتفاقٍ بشأن منح فلسطين لليهود . ولإعطاء جرعة قوية لهذه المحادثات ، وتشجيع ساسة بريطانيا الاستعمارية نشر "حاييم وايزمان " رسالة في تشرين الثاني من العام 1915 في صحيفة ( المانشستر غارديان ) ، قال فيها : ( إذا دخلت فلسطين ضمن منطقة النفوذ البريطاني ، ووافقت الحكومة البريطانية على تشجيع إسكان اليهود فيها فانه يمكن أن يصير لنا فيها خلال عشرين أو ثلاثين عاماً نحو مليون يهودي أو ربما أكثر من ذلك فيشكلون حراسة عملية قوية لقناة السويس ) . وفي تشرين من العام 1917 ، أرسل ( حاييم وايزمان ) إلى وزارة الحرب البريطانية ، قال فيها ( نعلن لكم بصراحة واحترام ، أننا نترك بين أيديكم مصيرنا الوطني الصهيوني آملين أن تنظروا إلى قضيتنا في ضوء مصالح الإمبراطورية البريطانية ) .
وخلال مجريات الحرب وتطوراتها طرأت تغييرات على أولويات الحركة الصهيونية باتجاه أن تكون فلسطين هي الوطن المنتظر ، خصوصاً عندما دخلت السلطنة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا . ولأجل ذلك كثفت الحركة نشاطها في كل الاتجاهات وخصوصاً لدى الدول النافذة ، ولهذه الغاية بدأت مجموعة ( حاييم وايزمن ) عملها في لندن ، و( حاييم سوكولوف ) في باريس وروما ، والقاضي ( لويس براندايس ) ومجموعة الصهاينة المقربين من الرئيس الأمريكي ( ويلسون ) ، الذي لم تكن بلاده تُعير كبير الاهتمام بالحركة الصهيونية ، على الرغم من أن أعداد اليهود المهاجرين إليها في ازدياد مضطرد .
ومن خارج رتابة المواقف المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية بعدم الإنخراط في التحالفات الدولية أو في النزاعات فيما بينها ، وجدت أميركا نفسها في خضم الحرب وأتونها عندما بدأت ألمانيا تُحرض المكسيك بشن حرب على أمريكا من أجل استرداد ولايات ( آريزونا وتكساس ونيومكسيكو ) ، وذلك من خلال برقيات التقطتها بريطانيا كان قد وجهها وزير خارجية ألمانيا ( آرثر زيمرمان ) إلى نظيره المكسيكي ، وقد عمدت بريطانيا لتسليمها للأميركيين الذين أعلنوا الحرب آنذاك على ألمانيا في نيسان من العام 1917 . وهذا الإعلان الأميركي عن التدخل في الحرب قد لقي ترحيباً بريطانياً ، حيث عبرّ ( بلفور ) عن ذلك في قوله : " بأنها فرصة رومانتيكية لم أحظّ بمثلها في حياتي كلها " ، وهو أي بلفور سارع الخُطى في السفر إلى أميركا ، لتُشكل مناسبة في التأكد من تأييد واشنطن منح الحركة الصهيونية ما تصبو إليه وتبتغيه ، وهذا ما طمأنه إليه القاضي ( لويس براندايس ) عن أن الرئيس الأميركي ( ويلسون ) " ينظر بعين الموافقة على أن تكون فلسطين تحت الحماية البريطانية " . وهكذا تأكد ( بلفور ) بأن واشنطن مع إعلانه ، علماً بأن بريطانيا كانت تحتاج إلى إرضاء أميركا ، لأنها كانت مثقلة بديون الخزانة الأميركية ، لدفع نفقات الحرب الباهظة التي بلغت خلال سنواتها 850 مليون جنيه إسترليني .
ومع وصول الحرب العالمية الأولى إلى خواتيمها ، كانت تؤشر في أن نتائجها ذاهبة لصالح دول الحلفاء على دول المركز . وبالتالي كانت كل من بريطانيا وفرنسا قد عقدتا فيما بينهما وبمصادقة روسيا اتفاقية سايكس – بيكو ، قسمت بموجبها المنطقة ما عدا الجزيرة العربية إلى مناطق سيطرة ونفوذ ، حيث وقعت فلسطين تحت منطقة نفوذ البريطانيين ، الذين أصروا خلال المفاوضات مع الفرنسيين أن تكون فلسطين وبطلب من الحركة الصهيونية من حصتهم ، وهكذا كان ، ليسهل عندئذٍ تنفيذ ما تعهدّ به ساسة حكومة جلالة الملكة .
هذا وقد سبق الصدور العلني للتصريح الوعد بصياغته النهائية ، مسودات ستة صِيغت من قبل جهات وشخصيات بريطانية ، والواضح بل من المؤكد أن جهات وشخصيات صهيونية وقفت ورائها :-
- مسودة وزارة الخارجية البريطانية في حزيران 1917 ، وهي مسودة تمهيدية تعلن فيها حكومة بريطانيا انها تُنشئ في فلسطين ملاذاً لضحايا الاضطهاد من اليهود .
- مسودة التمهيد الصهيونية في 12 تموز 1917 ، وهي أن تقبل بريطانيا بمبدأ الاعتراف أن فلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي الذي يحق له بناء صرح حياته القومية عليها وحرية الهجرة لليهود في ظل حماية ، عند الانتصار بالحرب وإبرام الصلح .
- مسودة الحركة الصهيونية في 18 تموز 1917 وأكدت على مبدأين ، الأول أنّ حكومة جلالة الملك تقبل بتحويل فلسطين وطناً قومياً لليهود . والثاني تعهد حكومة جلالة الملك في بذل مساعيها لتحقيق هذا الهدف ، وأن تبحث مع المنظمة الصهيونية في الوسائل اللازمة لذلك .
- مسودة بلفور في آب 1917 ، وهي التي نصت في القبول بمبدأ إعادة تكوين فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود . بما فيها بحث الوسائل والمقترحات مع المنظمة الصهيونية ، لتحقيق هذا الهدف .
- مسودة ميلنر في آب 1917 ، والتي نصت على أن حكومة الملك تقبل بمبدأ إتاحة كل الفرص التي تسمح في إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين ، وتعاونها الوثيق مع المنظمة الصهيونية .
- مسودة ميلنر - آمري في تشرين الأول عام 1917 ، وتُقر أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي في فلسطين للجنس اليهودي . على أن لا يؤدي ذلك إلى أي عمل يُلحق الأذى بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين ، أو الحقوق والمكانة السياسية التي يتمتع بها في البلدان الأخرى أولئك اليهود الذين يشعرون بقناعة تامة إزاء جنسيتهم ومواطنيتهم الراهنة .
وبالتدقيق في هذا التصريح - الوعد نجده باطلاً لأسباب عديدة :-
- لأن الوعد صدر في عام 1917 أي في وقت لم يكن لبريطانيا فيه أية صلة قانونية بفلسطين
- لأن احتلال بريطانيا لفلسطين حدث بعد صدور الوعد ، ولأن قانون الاحتلال الحربي لا يُجيز لدولة الاحتلال التصرف بالأراضي المحتلة ، ولأن الحكومة البريطانية أعلنت في مناسبات كثيرة أن الهدف من احتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية وإقامة حكومة وطنية فيها .
- لأن الوعد أعطى فلسطين لمجموعة من الناس لا تملك أية صفة أو حق في تسلمها أو استيطانها أو احتلالها .
- لأن الوعد ليس اتفاقية مع دولة أو كيانات دولية ذات سيادة ، ف " اللورد بلفور " مسؤول بريطاني ، ولكنه لا يملك حق التعاقد باسم دولته . واللورد " روتشيلد " مواطن بريطاني صهيوني ، ولكنه لا يمثل الطائفة اليهودية المنتشرة في العالم .. والطائفة اليهودية لم يكن لها شخصية قانونية دولية .
- لأن الوعد أضر بالحقوق التاريخية والحقوق المكتسبة لسكان فلسطين ، فهؤلاء السكان موجودون في فلسطين منذ آلاف السنين ، وقد اعترفت لهم الدول الحليفة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بحق تقرير المصير وحق اختيار النظام السياسي والاجتماعي الذي يلائمهم . ولان الوعد يتناقض مع بعض المواد في ميثاق عصبة الأمم أو صك الانتداب فهو يتناقض مع المادة العشرين من الميثاق التي تنص على " إن جميع أعضاء العصبة يقرون كل ما يعنيه ، بان هذا الميثاق يُلغي كل الالتزامات أو الاتفاقيات الدولية المتعارضة مع أحكامه . ويتعهدون رسمياً بعدم عقد التزامات أو اتفاقيات مماثلة في المستقبل . وإذا كان أحد الأعضاء قد تقيد ، قبل دخوله العصبة ، بالتزامات متعارضة مع أحكام الميثاق ، فعليه اتخاذ التدابير الفورية للتخلص منها " .
إنّ التصريح - الوعد ومنذ صدوره شكلّ هدفاّ سياسياً عملت عليه قوة الإنتداب البريطاني في تمكين الحركة الصهيونية من السيطرة على فلسطين ، وهذا جوهر تصريح بلفور المشؤوم ، وذلك عبر وسائل وأساليب ، فقد وقف استجلاب قطعان المهاجرين اليهود الصهاينة من أصقاع العالم إلى فلسطين في مقدمة تلك الوسائل .
يجب ألاّ تُغرينا تلك التصريحات التي أطلقها قبل سنوات وزير الخارجية البريطاني ( جاك سترو) ، والتي أقر في مقابلة مع مجلة " نيو ستيتمان " الأسبوعية في منتصف تشرين الثاني 2002 ، بمسؤولية بلاده التاريخية عن الكثير من النزاعات الحالية بالمنطقة العربية وخصوصا القضية الفلسطينية ، والنزاع بين الهند وباكستان حول إقليم كشمير من خلال قوله : " إن الكثير من النزاعات الحالية بين الدول هي من نتائج ماضينا الإمبريالي ، وينبغي علينا تسويتها " . وأقرّ أن بلاده أعطت وعد بلفور لليهود ، والذي يعدهم بوطن في فلسطين ، وفي الوقت نفسه منحت ضمانات متناقضة لكل من الفلسطينيين واليهود في قوله : " وهذه الأشياء تمثل تاريخاً هاماً لنا ، لكنه ليس تاريخاً مشرفاً " . وهذا الاعتراف ل( جاك سترو ) لم يترافق مع أية جهود بذلتها الحكومة البريطانية لتصحيح الخطيئة التاريخية بمعناها القانوني والأخلاقي ، وعليه فإن التطلع نحو قيام بريطانيا بأية خطوات تصب في هذا السياق ضربٌ من الخيال ، لسببين ، الأول يتمثل في غياب الإرادة السياسية والوطنية في مقاضاة بريطانيا على ما اقترفته من جريمة العصر والمتمثل في " منح وعد من لا يملك لمن لا يستحق " . والثاني هو اتفاق " أوسلو " وما أنتجه من تنازل عن 78 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية ، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الكيان " الإسرائيلي " .
يجب التأكيد على أن قضيتنا الوطنية الفلسطينية هي نتاج لحل المسألة اليهودية على حسابنا من قبل القوى الاستعمارية وإلى جانبهم الولايات المتحدة ، في إيجاد وطن قومي لهؤلاء اليهود . وهذا اعتمد على الشراكة العملية بين الحركة الصهيونية وتلك الدول . حيث شهدت تحولاً إستراتيجياً ، منذ المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897 من كونها حركة دينية صوفية إلى حركة سياسية تقود دفة قيادة اليهود الصهاينة في تحقيق أهدافهم وما يسعون إليه ، عبر وسائل وأساليب تتنافى مع القيم الأخلاقية والقانونية وأبسط حقوق الإنسان ، وخرق قرارات ما تسمى بالشرعية الدولية ومواثيقها . وبهذا المعنى لا يجوز أن نطالب دولة بلفور أن تعتذر أو تصحح خطيئتها التي ارتكبتها قبل 102 عاماً من الآن . لأن هذا الاعتذار لن يعيد الأوضاع إلى نصابها الحقيقية ، فيعيد ما يزيد عن الستة ملايين فلسطيني من الشتات والمغتربات إلى ديارهم التي طردوا منها ؟ ، ولأن اعتذار حكومة جلالة الملكة لن يعيد الملايين من اليهود الذين استجلبتهم هي والحركة الصهيونية من كل بقاع الدنيا إلى الدول التي أحضروا منها إلى فلسطين . ناهيك عن الآلاف المؤلفة من ضحايا شعبنا الفلسطيني الذين سقطوا على يد الكيان وعصاباته ، فالاعتذار المفترض لن يعيدهم إلى ذويهم وأحبتهم ، وناهيك أن هناك من ارتكب خطيئة بلفور عندما تنازل عن 87 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية ، بموجب توقيعه على اتفاقات " أوسلو " قبل 26 عاماً ، واعترف بالكيان الصهيوني .