الثبات - التصوف
العالم الرباني
المحدث عبد الله سراج الدين
ولد سنة 1924م، في بيت علم وولاية، ورعاه والده الشيخ الإمام محمد نجيب سراج الدين.
وقد التحق بالمدرسة الشرعية (الخسروية)، ونبغ بين أقرانه، وحفظ القرآن، واشتغل بحفظ الحديث ودراسته.
وكان شيخه الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله (مؤرخ حلب ومحدثها) يفخر به؛ لنبوغه بالعلم عامة، وفي الحديث خاصة.
بلغ محفوظه نحو ثمانين ألف حديث؛ من أحاديث السنة والمسند والترغيب والترهيب والتفسير وغير ذلك.
عندما وصل الشيخ السنة الأخيرة تغيرت مناهج (الخسروية)، وأُدخل عليها منهاج وزارة المعارف بكامله، وخفَّت مناهج العلوم الشرعية؛ فاعتزل الشيخ المدرسة، ولم يبال بفوات الشهادة، وعكف على علوم الشريعة بدأب عظيم وإشراف وتوجيه والده.
واعتنى عناية كبيرة بمختلف علوم الشرع وعلوم العقل واللغة حتى صار بحراً في كل علم منها، وما لبث أن طار صيته في العلوم الشرعية وخاصة علم الحديث ومصطلحه، وعُهِد إليه بالتدريس في المدارس الشرعية والشعبانية، إضافة إلى دروسه العامة في المساجد، وكانت في أصعب وقت (بعد طلوع الفجر)، أربعة دروس أسبوعياً.
المكان الذي كان يدرس فيه الشيخ رحمه الله
اعتنى بالاتصال بالعلماء في سفرات الحج والعمرة، ورحل رحلات كثيرة إلى دمشق وحمص وحماه، وإلى بغداد، وإلى القدس، واتصل بعلمائها، وكان محط إعجابهم.
وكانت عنايته في دروسه بالعلم الشرع، والمعارف الإلهية، ومحبة النبي، حتى صارت دروسه متميزة بذلك، واعتمد بكل ذلك على الجمع من القرآن والحديث، والتوفيق بين كلام العارفين وكلام الله ورسوله، والرد على المنكرين، حتى كانت مدينة له بإنقاذها من كل فكر متطرف شاذ.
ومن منهجه أنه يكره أشد الكره: تكفير المسلمين، أو التسرع برمي مسلم بالضلال والابتداع، وكان يقول لرجال الفكر مخالفي السنة: " نحنن هنا أهل السنة ليس عندنا إشكال ضد أحد، إنما الإشكال عندكم بتكفير مَن يخالفكم بالحكم عليه بالضلال أو الفسق، فراجعوا أنفسكم".
وحفلت كتبه بالحديث عن رسول الله وبيان سيرته، وقد خصص بعض الكتب لهذا الغرض، مثل كتاب: "سيدنا محمد رسول الله"
، وكتاب "الصلاة على النبي "، وكتاب "شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله".
ولا حظ فضيلته حاجة حلب لمدرسة شرعية تُخَرِّج طلاب علم أقوياء في العلوم الشرعية، ويَصلحون لإمامة المساجد والخطابة، فافتتح مدرسة الشعبانية، بدأ بذلك سنة 1960م، وكانت الفكرة مستغربة، ولكن ما لبثت أن صارت مطمحاً للعلماء في حلب وغيرها؛ فافتتحت مدارس عديدة أفادت من تجربته في مدرسته، في المعرة ودمشق، وقد تميزت مناهجها بالتكامل؛ فهي علمية شرعية، تتضمن علوم اللغة العربية، ومناهج تربوية إيمانية.
المدرسة الشعبانية
وكان عظيم الورع يحتاط من أي شبه، ولا يرضى أن يُطعن عنده في أحد.
ومن ورعه أنه لم يُعَجِّل بعملية إزالة (الفتق) لأن فيه كشف عورة، ولم يجد ما يبرر كشفها؛ لأنَّه قادر على التصرف بأمور من دونها، لكن لَمَّا وجد لزومها طلبها هو بنفسه، ودخل غرفة العمليات، وقَدَّر الله قَدَرَه، بحصول مضاعفات أثناء العمل الجراحي؛ وكان أمر الله مفعولاً، وليكون ذلك سبب نيله درجة الشهداء إن شاء الله، كما نال درجة كُمِّل الأوفياء.
وآخر فتوى أفتاها، أنَّ أحد الأطباء سأله عن معاملة المرضى، فقال له: "بر مريضك ولو كان كافراً".
من مؤلفات الشيخ رحمه الله:
-أدعية الصباح والمساء ومعها استغاثات بالله.
-الدعاء فضائله، آدابه، ما ورد في المناسبات ومختلف الأوقات.
-سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، خصاله الحميدة، وشمائله المجيدة.
- شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله: فضائلها، معانيها، مطالبها.
-الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أحكامها ـ فضائله ـ آثارها ـ آدابها.
وكانت له بعض المحاولات الشعرية على صورة ابتهالات إلى الله سبحانه وتعالى، واستغاثة به، وهذه بعض استغاثاته:
يا إلهي يا مجيب السائلين ... بالنبي الصادق الهادي الأمين
اشرح الصدر ويسر أمرنا ... وأعنا يا قوي يا متين
يا إلهي يا رجاء المرتجين ... بالكلام المحكم الحق المبين
بضيا وجهك النور الذي ... نوّر العرش وعم العالمين
بصفات لك حلت يا قديم ... وبأنوار قلوب المؤمنين
بابتهالات الحبيب الأكرم ... سيد الكونين فخر الفاخرين
ببهاء نور وجه المصطفى ... وضياء وسنا ذاك الجبين
بسجود تحت عرش الله إذ ... قيل اشفع في العباد أجمعين
بخشوع وخضوع الأتقيا ... ونحيب وأنين العاشقين
بتجلي الأنس أوقات الوصال ... وفيوض الفتح بالعلم اليقين
أخلاق الشيخ رحمه الله:
طيب القلب، زكي النفس، محب للمسلمين، متواضع، لا ينسب لنفسه شيء ولا يرى لنفسه فضل على أحد المخلوقات، يكرر قوله: "أنا معلم للقرآن والحديث"، "أنا خادم صغير على الأعتاب".
صبور، يتحمل الأذى والمشقات والآلام بنفس راضية، وثقه عظيمة بالله، وفيّ، لا ينسى الفضل لأصحابه، وهذا ما تجلى في تعامله مع أساتذته وشيوخه بتوفيرهم وإجلالهم والتأدب معهم، ولعل أسمى مظهر من مظاهر وفائه، بره بوالديه، ودوام ذكرهما، والترحم عليهما، فوالده عنده صاحب كل فضل وخير، فعلمه (علم الشيخ نجيب، والمدرسة مدرسة الشيخ نجيب والعمل عمل الشيخ نجيب، والشيخ نجيب حجة الإسلام وإمام المسلمين والشيخ نجيب أمره عجيب).
كريم النفس، سخي اليد، جواداً معطاء، كثير البذل، لا يرد سائلاً
يكرم زواره، ويبش لهم، ويقوم على خدمتهم.
وفاة الشيخ رحمه الله:
وكان يوم وفاته يوم حزن وأسى عمّ المدينة كلها، وزحفت جموع الجماهير منذ الصباح الباكر لتودع شيخها الراحل، وامتلأت أرجاء
(جامع عبد الله بن العباس) على سعته، وسدت جميع الطرق المؤدية من بيته إلى الجامع إلى المدرسة (الشعبانية)، وصلي عليه قبل صلاة الظهر
ليتسنى للناس الصلاة من شدة الزحام، وحضر الصلاة عليه علماء حلب
ومدير أوقافها، ومفتي المدينة، وكبار المسؤولين فيها، ثم حمل النعش على سيارة خاصة، وسارت به في طرق فرعية، متجنبة الزحام في الطرق المألوفة من الجامع إلى المدرسة (الشعبانية)، ومع ذلك فقد استغرق الطريق إليها أكثر من ساعتين، وهناك أعيدت الصلاة عليه، وراء ابنه الشيخ نجيب مع مجموعة كبيرة من الناس، الذين لم يتسن لهم الصلاة عليه في الجامع ثم تقدم صهره الشيخ الدكتور نور الدين عتر، فلقنه بكلمات موجزة، خنقتها الدموع، ثم وري الثرى في مدفن غربي جامع المدرسة، حسب وصيته.
وأقيمت له مجالس عزاء في (جامع عبد الله بن العباس)، اقتصرت على سماع القرآن الكريم، وقدمت وفود للتعزية من مختلف المحافظات السورية، ومن خارج البلاد، وجمع غفير من الجماهير حلب، التي أحبت الشيخ، وحزنت لفقده، كما أقيمت صلاة الغائب على روحه الطاهرة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق وغيرها من المدن الإسلامية، وخصص خطباء المساجد في المدينة حلب جزءاً كبيراً من خطبتهم يوم الجمعة للحديث عن الشيخ الفقيد ومناقبه
لقد وضع الله شيخنا الإمام: القبول في الأرض، فعلى الرغم من اعتزاله الناس منذ إحدى عشرة سنة خرجت حلب بأسرها (مليون شخص)، أو أكثر لتوديع هذا الشيخ.
ولوحظ أنَّ نصف المشيعين سنهم من سن الخامسة والعشرين فما دون، وأنَّهم لم يروا الشيخ، ولم يحضروا دروسه، إنما هي المحبة أودعها الله في قلوبهم.
ضريح الشيخ رحمه الله