الثبات - التصوف
"لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإنَّ من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه"
فكرم الله وإحسانه يتجلى من خلال كل الآيات والبشائر النبوية التي يغفر بها الذنوب ويكفر بها السيئات.
إنَّ هذه الحكمة المباركة قد توخت تحقيق مقصد عظيم به أنيط الفلاح في الدارين، وهو حُسن ظن العبد بربّه، ففي الحديث القدسي الذي يرويه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رب العزة: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي"، فإذا حسن ظن العبد بربه أفلح في الدارين، وإذا ساء ظن العبد بربه والعياذ بالله؛ فإنَّه الردى، نسأل الله عفوه ومعافاته، وبهذا تجلت المعاني في قوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} والقصد من هذه الحكمة إسعاف العباد بما يمكّنهم من المحافظة على الإيجابية في سلوكهم إلى الله تعالى ولو كان سيرهم إلى الله عُرْجاً ومكاسير، فهذه الحكمة تحجز العبد أن يستعظم ذنبه استعظاماً يؤدي به على اليأس، إذ اليأس ربما يؤدي إلى الكفر قال سبحانه وتعالى: {إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون}.
وليس المقصود استصغار الذنب استصغار جرأة، بل المقصود استصغاره استصغاره لعظيم فضل الله.
لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله تعالى، فإنَّ من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه.
الناس في الخوف والرجاء على ثلاثة أقسام:
أهل البداية: ينبغي لهم تغليب جانب الخوف.
وأهل الوسط: ينبغي لهم أن يعتدل خوفهم ورجاؤهم.
أهل النهاية: يغلبون جانب الرجاء.
أما أهل البداية فلأنهم إذا غلبوا جانب الخوف جدوا في العمل وانكفوا عن الزلل فبذلك تشرق نهايتهم قال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، وأما أهل الوسط فلأنَّهم قد انتقلت عبادتهم إلى تصفية بواطنهم فعبادتهم قلبية فلو غلبوا جانب الخوف لرجعوا إلى عبادة الجوارح والمطلوب منهم عبادة البواطن على رجاء الوصول وخوف القطيعة فيعتدل خوفهم ورجاؤهم وأما الواصلون فلا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركاً فهم ينظرون إلى تصريف الحق وما يجري به سابق القدر فيتلقونه بالقبول والرضاء فإن كان طاعة شكروا وشهدوا منة الله وأن كان معصية اعتذروا وتأدبوا ولم يقفوا مع أنفسهم إذ لا وجود لها عندهم وإنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة فنظرهم إلى حمله وعفوه وإحسانه وبره أكثر من نظرهم إلى بطشه وقهره.
ويرحم الله الإمام الشافعي حيث قال:
فلما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظماً
فما زلتَ ذا جود وفضل ومنة ... تجود وتعفوا منة وتكرماً
فياليت شعري هل أصير لجنة ... أهنا وإما للسعير فأندما
قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}.
وتأمل قضية الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم سأل راهباً فقال له هل لي من توبة فقال له لا توبة لك فكمل به المائة ثم أتى عالماً فسأله فقال له من يحول بينك وبينها ولكن أذهب إلى قرية كذا ففيها قوم يعبدون الله فكن فيهم حتي تموت فلما توسط الطريق أدركه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحي الله إليهم أن قيسوا القرية التي خرج إليها والقرية التي خرج منها فألى أيهما كان أقرب فهو من أهلها فأوحي الله إلى القرية التي يريد أن تقاربي وإلى القرية التي خرج منها أن تباعدي فوجد أقرب إلى القرية التي يريد بشبر فأخذته ملائكة الرحمة.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :العامة إذا خوفوا خافوا وإذا رجوا رجوا والخاصة متى خوفوا رجوا ومتى رجوا خافوا.
دخل الجنيد رضي الله عنه على شيخه السري فوجده مقبوضاً فقال له: مالك أيها الشيخ مقبوضاً؟ فقال: دخل علي شاب فقال لي: ما حقيقة التوبة ؟ فقلت له: أن لا تنسى ذنبك ، فقال الشاب: بل التوبة أن تنسى ذنبك، ثم خرج عني. قال الجنيد فقلت الصواب ما قاله الشاب لأني إذا كنت في حالة الجفاء ثم نقلني إلى شهود الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء.
نظر السري إلى أهل البداية ونظر الجنيد إلي أهل النهاية والكل صواب.