أقلام الثبات
يبدو أن مسلسل إنفصال كردستان العراق لن ينتهي سريعا وسيكون له أجزاء جديدة في دول أخرى غير العراق في المنطقة، وهنا أقصد جبال النوبة بجنوب دولة السودان والتى تقع تحديدا في جنوب ولاية كردفان، وهى المنطقة التى يعاني أهلها من التهميش ومحاولة فرض قوانين وتشريعات إسلامية عليهم، فى منطقة غالبية سكانها من الأفارقة الذين يعتنقون المسيحية أو معتقدات وثنية قديمة، إلى جانب عدم تعيينهم فى المراكز السلطوية المؤثرة بالدولة، وإقتصار عملهم على العمالة اليدوية والخدمة العسكرية، والأمر لم يقتصر على التهميش الوظيفي والسياسي فقط، بل كثيرا ما فرضت عليهم السلطة قيوداً مثل منع اقامة العديد من الأحتفالات والطقوس بحجة أنها مخالفةً للشريعة الإسلامية، كما يتخوف النوبيون الساكنين خارج الجبال من إندثار ثقافتهم بسبب سياسات النظام السوداني ضدهم، بعد شن حملات دهم لإحياء النوبيين بالخرطوم، وتوقيفهم بتهم صناعة "التامبيرة" أو "المريسة" التى إعتبرها النظام نوعاً من أنواع الخمور، وإلى جانب كل ما سبق فلدى النظام السوداني الرغبة الجادة فى السيطرة الإقتصادية على تلك المنطقة لما تمتلكه من معادن، الأمر الذى أشعل عشرات المعارك بين قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال (جيش النوبة) والقوات النظامية.
المنطقة المقدرة مساحتها بحوالي 30 ألف ميل مربع، ساهمت جغرافيتها الجبلية (50 ألف قدم فوق سطح البحر عند القمم و20 ألف قدم لدى السفوح) في منح مقاتلي النوبة التفوق الإستراتيجي أمام القوات النظامية التى حرمت فى مواجهات كثيرة من إستخدام سلاح الطيران ضدهم، ومنحت النوبيين التصدي بكل سهولة للهجمات البرية المتكررة عليهم من قبل القوات النظامية، وهو الأمر الذى ساعد فى أن تكون جبال النوبة خارج قبضة السلطة المركزية لعقود، ويشكل النوبيين 80% من قوام قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، وتنقسم الجبال بين القمم التي تقطنها قبائل النوبة ذات الجذور الإفريقية (السكان الأصليون في السودان)، والسفوح التي ترتع فيها القبائل الرعوية العربية، وبين الفريقين تتوزع قبائل وفدت من غرب إفريقيا.
لذلك سعى إقليم جبال النوبة في الماضي ولأكثر من مرة لتكرار سيناريو دولة جنوب السودان أي تحقيق الإنفصال عن الخرطوم، لا سيما في ظل عوامل شبه الكثيرة بين الجنوب ومنطقة الجبال، وما يعزز ذلك السعي فى إقليم جبال النوبة هى الأواصر القوية التي تربطهم بجوبا، والتواصل معهم بعد توقيع إتفاقية السلام الشامل المبرمة بمنتجع نيفاشا الكيني عام 2005م، والتى أقرت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
ولتقييم وضع الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال من الداخل في السنوات القليلة الماضية، ومعرفة ما يدور بمطبخها يجب الإ يفوتنا كم الخلافات التى نشبت في الحركة منذ عامين ونصف العام، والتى على أثرها تفكك مثلث القيادة المكون من رئيس الحركة مالك عقار وأمين الحركة ياسر سعيد عرمان ونائب الرئيس عبد العزيز أدم الحلو، بعد إستقالة الإخير الذى أتهم فيها رئيس الحركة وأمينها بالفساد المالي والخيانة، بعد أن إتهمهم بالحصول على أموال من سفارات غربية بكمبالا وجوبا ومبالغ أخرى تخص تحالف نداء السودان، وهنا لم يتردد مجلس إقليم جبال النوبة بعد إجتماعات للمجلس استمرت عشرين يوما فى ولاية كاودا، عن سحب الثقة من ياسر سعيد عرمان وسحب ملفات التفاوض والعلاقات الخارجية والتحالفات السياسية منه، وحل الأمانة العامة للحركة وإعتماده المطالبة بحق تقرير المصير لشعب جبال النوبة، كي يصبح نائب رئيس الحركة عبد العزيز آدم الحلو هو المرجعية النهائية لملف التفاوض والقضايا المصيرية لشعب الإقليم، وهنا تغيرت بوصلة جبال النوبة.
فمع تولي الحلو زمام الأمور أستمرت بالبداية أغلب القوى المعارضة بالسودان في إتخاذ موقف الحياد تجاه ما يحدث من معارك داخلية بالحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، والبقاء على مسافة واحدة من طرفي الخلاف الى أن جاء المؤتمر الذى عقده الحلو بمايو/أيار الماضي كي تقر أغلب الشخصيات المعارضة السودانية بمختلف توجهاتها بالحضور.
وللرغبة فى التأكيد على التواجد والحضور في الساحة أصدر الناطق الرسمي للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال ارنو لودي بيان يفيد بوصول الفريق عبد العزيز أدم الحلو رئيس الحركة الشعبية والقائد العام للجيش الشعبى لتحرير السودان-شمال الى المناطق المحررة بأقليم جبال النوبة جنوب كردفان.
وبعدها شهدت الامور تطورات خطيرة على يد مجلس تحرير جبال النوبة بعدما جاء مؤتمر كاودا الإستثنائي بعنوان "ارادة الشعوب لاتقهر" وجاء نص بيانه الختامي مؤكدا على حق تقرير المصير لشعب جبال النوبة، وهنا كان الهدف الرئيسي من المؤتمر هو حشد أكبر كم ممكن من أوراق الضغط أمام نظام الرئيس المعزول عمر البشير وقتها، الى أن جاءت المستجدات مؤخرا بعد أن بدأت المحادثات التى تستضيفها جنوب السودان بين المجلس الحاكم في الخرطوم والجماعات المسلحة يوم الاثنين 14أكتوبر/ تشرين الأول الجاري لإنهاء صراعات أستمرت لسنوات طويلة، وهو شرط مسبق لرفع السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، ولكن لم تستمر المحادثات سوى يومين فقط حتى تم تعليقها يوم الاربعاء 16 اكتوبر/ تشرين الأول، بعد أن إتهمت الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال قوات الدعم السريع السودانية بإحتلال مناطق جديدة ومهاجمة وإعتقال تجار تابعين لها.
وفي 21الجاري عادت المحادثات من جديد ليتم التوقيع على وثيقة أتفاق بين السلطة الانتقالية السودانية والحركات المسلحة المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية دون الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، بعد مفاوضات أستمرت عشرة أيام بجوبا عاصمة جنوب السودان، وقد ضم الاتفاق 7 بنود، جاء أبرزها وقف الإعتداءات بين الطرفين، وتنفيذ شعارات ثورة ديسمبر، وتحقيق العدالة الانتقالية بشكل صارم.
والسؤال الذى يطرح نفسه الان هل حقا لدى الطرفين (الحكومة والحركات المسلحة) نية التصالح ؟ أم أن ما يحدث الأن ما هو الإ إستراتيجية تسير منذ زمن، والأن تتحرك بوتيرة أسرع لتحقيق الإنفصال، فى ظل ما تشهده الحركات الإنفصالية بالعالم من صحوة، خصوصاً بعد التطور الذى حدث بشمال العراق وتصويت الأكراد على الإنفصال، وهو الأمر الذى يتكرر اليوم فى إقليم كتالونيا مع الدولة الأسبانية، قبل أن يحدث فى السودان نفسها بأنفصال الجنوب فى 2011م، فالمعارك الطاحنة التى خاضتها الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال ضد القوات الحكومية من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في السنوات الماضية رفعت من سقف طموح القاطنين بجبال النوبة كثيرا، فهل نرى كردستان ثانية بجنوب السودان ؟