الثبات - اسلاميات
"لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين"
إذ لا مسافة بينك وبين ربك حتى تطويها رحلتك، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك.
يعني لولا شهوات النفوس ومألوفاتها التي تخوض فيها وتتعشقها كما تخوض الفرسان في الميادين الواسعة التي تجول فيها الخيل ما تحقق سير السائرين أي ما تصور سير من أي مريد.
فإنَّ الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد ولو تطهرت النفوس لعلمت أنها في حضرة القدوس.
فالسير إلى الله إنما هو قطع عقبات نفسك، فإنَّ البعد منسوب إليك لا إلى ربك إذ لا مسافة حسية بينك وبينه تقطعها رحلتك لأنَّها لا تكون إلا بين متماثلين، ولا قطعة بضم القاف أي لا مقاطعة توجب البعد المعنوي بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك لأنَّ ذلك لا يكون إلا بين متعاديين وأين أنت من معاداة ربك، فليس ثم حجاب يمنع وصولك غير نفسك ولا يزول ذلك الحجاب إلا بإماتتها وتطهيرها من كل ما يغضب رب الأرباب ولا يكون ذلك في الغالب إلا بتسليمها لشيخ عارف بما لها من الأحوال فإنَّك تصل بالانقياد إليه إلى أعلى مراتب الكمال.
فالفرق بين الصـادق وغيره هو الجـد والإجتهـاد لأنّ الإنسان السائر إلى الله مظهـره التقوى والطّـاعـة والعمـل الدّؤوب وإذا كان ظـاهره يُؤذن بخـلاف باطنـه فهذا ليس بصـادق، فالصـادق دائمـاً وأبـداً تجـول نفسـه في ميـاديـــــــن الطـاعـة وفي رياض العمـل ليلاً ونهاراً.
وهـذه هي ميزة الصـوفي: الجـدّ والإجتهاد والحـزم، يقـول الشيــــــــخ البوصيري:
كأنّـهم في ظـهـور الخيــل نبـت ربــا ... من شدّة الحَزم لا مــــن شَـدّة الحُزم
تجـده يتقلب ذات اليمين وذات الشمـال فوق جواده كأنـَّه نبات بربوة تميله الرياح كيفما هبّت وهو ثابت، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين}.
جاهـدوا أنفسهم فينا أي في طـاعتنا وفي سبيلنـا لنهدينّهم لتزكية النفوس في مجـالات الطـاعـة ومجـالات العمـل، فلولا ميـاديـــن النفـوس لاستـوى العـامـل والخـامـل والجادّ والهـازل ولم يكن هنــــــاك فرق بين الصـادقيـن وغيرهم.
فالذيـــــن سـاروا إلى الله، لم يسـيروا بالخمـول والراحـة والبطـالـة والركـون الى النفس، بـل بالجـدّ والحــزم والـتّـقـلّـب في ريـاض الطـاعـة، وهـذا بمـا يتحـقّـق سيـر السـائريــن بمجـالات العمـل، يقـول الإمام البوصيري:
والنفس كالطفـــل إن تهمله شـبّ على ... حبّ الرضـاع وإن تفطمـه ينفطـم