الثبات ـ مقالات مختارة
في هذه الأيام، تفتح الدورة الرابعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة. وكذلك الحال بالنسبة لـ «موسم سياسي» دولي جديد.
تبدأ الجلسة في لحظة تاريخية رمزية للغاية. في العام القادم سنحتفل بالذكرى السنوية العظيمة والمترابطة – الذكرى 75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى والحروب العالمية الثانية، وإنشاء الأمم المتحدة.
عند التفكير في الأهمية الروحية والأخلاقية لهذه الأحداث التاريخية، يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار المعنى السياسي الهائل للنصر الذي أنهى واحدة من أكثر الحروب وحشية في تاريخ البشرية.
قراءة انتقائيّة عدائيّة للنصر على النازية
لقد أثرت هزيمة الفاشية في عام 1945 بشكل أساسي على المسار الإضافي للتاريخ العالمي وخلق ظروف لإقامة نظام عالمي بعد الحرب. أصبح ميثاق الأمم المتحدة إطاره الحامل ومصدراً رئيسياً للقانون الدولي حتى يومنا هذا. لا يزال النظام المركزي للأمم المتحدة يحافظ على استدامته ولديه قدر كبير من المرونة. إنه في الواقع نوع من شبكة الأمان التي تضمن التطور السلمي للبشرية وسط تباين كبير في المصالح والتنافس بين القوى الكبرى. لا تزال تجربة زمن الحرب للتعاون الخالي من الأيديولوجيات بين الدول ذات النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة ذات أهمية كبيرة.
من المؤسف أنّ هذه الحقائق الواضحة يتمّ إسكاتها أو تجاهلها عن قصد من قبل بعض القوى المؤثرة في الغرب. علاوة على ذلك، كثف البعض من محاولاته لخصخصة النصر، وشطب من الذاكرة دور الاتحاد السوفياتي في هزيمة النازية، تاركاً للنسيان مكانة الجيش الأحمر المتمثلة في التضحية والتحرير، متناسياً ملايين الملايين من المواطنين السوفيات الذين قضوا نحبهم خلال الحرب، من هذا المنظور، من السهل فهم جوهر مفهوم شرح المساواة بين الأنظمة الشموليّة التي لا يقتصر هدفها فقط على التقليل من شأن المساهمة السوفياتية في النصر، ولكن أيضاً تجريد بلدنا بأثر رجعي من دوره التاريخي كمهندس وضامن للنظام العالمي لما بعد الحرب، ووصفه بأنه «قوة عودة إلى الخلف» تشكل تهديداً لرفاهية ما يُسمّى العالم الحر.
إنّ تفسير الماضي بهذه الطريقة يعني أيضاً أن يرى بعض شركائنا أنّ إنشاء صلة عبر الأطلسي والزرع الدائم للوجود العسكري الأميركي في أوروبا هو إنجاز رئيسي لنظام العلاقات الدولية بعد الحرب. هذا بالتأكيد ليس هو السيناريو الذي وضعه الحلفاء في الاعتبار عند إنشاء الأمم المتحدة.
الليبرالية الجديدة ليست ليبرالية
تفكك الاتحاد السوفياتي سقط جدار برلين، الذي كان يفصل رمزياً «المعسكرين» أصبحت المواجهة الإيديولوجية التي لا يمكن التوفيق بينها والتي حدّدت إطار السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريباً، شيئاً من الماضي ومع ذلك، فإن هذه التحولات التكتونية فشلت للأسف في تحقيق انتصار أجندة موحدة. بدلاً من ذلك، كلّ ما سمعناه كان عبارة عن تصريحات منتصرة بأن «نهاية التاريخ» جاءت وأنه من الآن فصاعداً سيكون هناك مركز عالمي واحد فقط لصنع القرار.
من الواضح اليوم أنّ الجهود المبذولة لإنشاء نموذج أحادي القطب قد فشلت. تحوّل النظام العالمي أصبح لا رجعة فيه. تسعى الجهات الفاعلة الرئيسية الجديدة التي تتمتع بقاعدة اقتصادية مستدامة إلى زيادة نفوذها على التطورات الإقليمية والعالمية لها الحق الكامل في المطالبة بدور أكبر في عملية صنع القرار. هناك طلب متزايد على نظام أكثر عدلاً وشمولاً. الغالبية الساحقة من أعضاء المجتمع الدولي ترفض سياسات الاستعمار الجديدة المتعجرفة التي يتمّ توظيفها مرة أخرى لتمكين بعض البلدان من فرض إرادتها على الآخرين.
كلّ هذا مقلق للغاية لأولئك الذين اعتادوا لقرون على تحديد أنماط التنمية العالمية من خلال استخدام مزايا حصرية. بينما تطمح غالبية الدول إلى نظام أكثر عدلاً للعلاقات الدولية واحترام حقيقي وليس معلناً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. فإنّ هذه المطالب تعارض السياسات الموضوعة للحفاظ على نظام يسمح لمجموعة ضيقة من البلدان والشركات المتعددة الجنسيّات بأن تجني من ثمار العولمة. إنّ استجابة الغرب للتطورات المستمرّة تكشف عن رؤية حقيقية لمؤيديها. يسير خطابهم حول الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان جنباً إلى جنب مع سياسات عدم المساواة والظلم والأنانيّة والإيمان باستثنائيتهم.
«الليبرالية»، التي يدّعي الغرب أنه يدافع عنها، تركز على الأفراد وحقوقهم وحرياتهم. هذا يطرح السؤال التالي: كيف يرتبط هذا بسياسة العقوبات والخنق الاقتصادي والتهديدات العسكرية العلنية ضدّ عدد من الدول المستقلة مثل كوبا أو إيران أو فنزويلا أو كوريا الشمالية أو سورية؟ فتضرب العقوبات مباشرة الناس العاديين ورفاههم وتنتهك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. كيف يمكن تفسير قصف الدول ذات السيادة، والسياسة المتعمّدة لتدمير دولهم التي تؤدّي إلى فقدان مئات الآلاف من الأرواح وتعريض ملايين العراقيين والليبيين والسوريين وممثلي الشعوب الأخرى لمعاناة لا حصر لها إضافة إلى ضرورة حماية حقوق الإنسان؟ وقد دمّرت مقامرة الربيع العربي المتهوّرة الفسيفساء العرقية والدينية الفريدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
في أوروبا، يتماشى مؤيّدو المفاهيم الليبرالية تماماً مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق السكان الناطقين بالروسية في عدد من الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي ودول الاتحاد الأوروبي. وتنتهك تلك الدول الاتفاقيات الدولية متعدّدة الأطراف من خلال اعتماد قوانين تنتهك حقوق الأقليات العرقية في التعليم واللغة.
ما هو المسوِّغ «الليبرالي» حول رفض التأشيرات والعقوبات الأخرى التي يفرضها الغرب على سكان شبه جزيرة القرم في روسيا؟ يعاقبون على تصويتهم الديمقراطي لصالح إعادة التوحيد مع وطنهم التاريخي. ألا يتعارض هذا مع الحق الأساسي للشعب في حرية تقرير المصير، ناهيك عن حق المواطنين في حرية التنقل المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية؟
كانت الليبرالية، أو بالأحرى جوهرها الحقيقي غير المشوّه، مكوّناً مهمّاً للفلسفة السياسية في كلّ من روسيا والعالم. ومع ذلك، فإنّ تعدّد نماذج التنمية لا يسمح لنا بالقول إنّ «سلة» القيم الليبرالية الغربية ليس لها بديل. وبالطبع، لا يمكن تنفيذ هذه القيم «على الحراب» – متجاهلة تاريخ الدول وهوياتها الثقافية والسياسية. الحزن والدمار الناجم عن القصف الجوي «الليبرالي» هما مؤشر واضح على ما يمكن أن يؤدّي إليه هذا.
التلاعب بالقانون الدولي بخلفيات العناد الاستعماري
عدم رغبة الغرب في قبول حقائق اليوم، بعد قرون من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية يفقد صلاحيته لكونه الوحيد الذي يتشكل منه وعلى يديه جدول الأعمال العالمي، بعدما أدّى إلى مفهوم «النظام القائم على القواعد». يتمّ اختراع «القواعد» ودمجها بشكل انتقائي اعتماداً على الاحتياجات العابرة للأشخاص الذين يقفون وراءها، ويقوم الغرب باستمرار بإدخال هذه اللغة في الاستخدام اليومي. هذا المفهوم ليس بأيّ شكل من الأشكال مجرداً أو نزيهاً او منصفاً، ويجري تنفيذه بنشاط. والغرض منه هو الاستعاضة عن الصكوك والآليات القانونية الدولية المتفق عليها عالمياً بأشكال ضيقة، حيث يتمّ تطوير أساليب بديلة غير متفق عليها لحلّ مختلف المشاكل الدولية تحايلاً على إطار شرعي متعدد الأطراف. وبعبارة أخرى، فإنّ الهدف الذي يقف وراء ذلك هو اغتصاب عملية صنع القرار بشأن القضايا الرئيسيّة.
تؤثر نيات من بدأوا مفهوم «النظام القائم على القواعد» على الصلاحيات الاستثنائية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وعلى سبيل المثال: عندما فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات السياسية التي اتهمت، دون أيّ دليل، الحكومة السورية باستخدام المواد السامة المحظورة، بدأوا في الترويج لـ «القواعد» التي يحتاجون إليها من خلال منظمة حظر الأسلحة الكيميائية OPCW من خلال التلاعب بالإجراءات الحالية في انتهاك صارخ لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، تمكنوا بتصويت أقلية من الدول المشاركة في هذه الاتفاقية من ترخيص الأمانة الفنية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتحديد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية. وهذا قانونياً تدخّل مباشر في صلاحيات مجلس الأمن الدولي. يمكن للمرء أن يلاحظ أيضاً محاولات مماثلة لـ «خصخصة» أمانات المنظمات الدولية من أجل تعزيز المصالح خارج إطار الآليّات الحكومية الدولية العالمية في مجالات مثل عدم الانتشار البيولوجي وحفظ السلام ومنع تعاطي المنشطات في الألعاب الرياضية وغيرها.
إنّ المبادرات الرامية إلى تنظيم الصحافة التي تسعى إلى قمع حرية الإعلام بطريقة تعسّفية، وهي أيديولوجية التدخل المتمثلة في «مسؤولية الحماية»، والتي تبرّر «التدخلات الإنسانية» العنيفة دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بذريعة وجود تهديد وشيك لسلامة المدنيين، جزء من السياسة نفسها.
بشكل منفصل، ينبغي إيلاء الاهتمام لمفهوم «مكافحة التطرّف العنيف» المثير للجدل، والذي يلقي اللوم على نشر الأيديولوجيّات المتطرفة وتوسيع القاعدة الاجتماعيّة للإرهاب على الأنظمة السياسية التي أعلن الغرب أنها غير ديمقراطية أو غير ليبرالية أو استبدادية. يوفر هذا المفهوم التواصل المباشر مع المجتمع المدني من وراء ظهر الحكومات الشرعيّة. من الواضح أنّ الهدف الحقيقي هو سحب جهود مكافحة الإرهاب من تحت مظلة الأمم المتحدة والحصول على أداة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إدخال مثل هذه المفاهيم الجديدة هو ظاهرة خطيرة من التحريفية، التي ترفض مبادئ القانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وتمهّد الطريق إلى أوقات المواجهة والعداء. إنه لسبب ما أن الغرب يناقش بصراحة وجود فجوة جديدة بين «النظام الليبرالي القائم على القواعد» و»القوى الاستبدادية».
التحريفية استراتيجية أيضاً
التحريفية تتجلى بوضوح في مجال الاستقرار الاستراتيجيّ. إن الولايات المتحدة التي نسفت أولاً معاهدة الحدّ من منظومات القذائف المضادة للقذائف التسيارية والآن معاهدة الوقود النووي المشعّ وهو قرار يتمتع بدعم أعضاء الناتو بالإجماع قد ولّدت مخاطر تفكيك الهيكل الكامل لاتفاقات الحدّ من الأسلحة النووية. إنّ احتمالات معاهدة تدابير زيادة تخفيض الأسلحة الهجوميّة الاستراتيجية والحدّ منها البداية الجديدة غامضة – لأنّ الولايات المتحدة لم تقدّم إجابة واضحة على الاقتراح الروسي بالموافقة على تمديد معاهدة ستارت الجديدة إلى ما بعد تاريخ انتهاء صلاحيتها في فبراير 2021.
نشهد الآن إشارات مفزعة عن إطلاق حملة إعلامية في الولايات المتحدة لإرساء الأساس للتخلي عن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية التي لم تصدّق عليها الولايات المتحدة . وهذا يشكك في مستقبل هذه المعاهدة، التي تعدّ حيوية للسلم والأمن الدوليّين. شرعت واشنطن في تنفيذ خططها لنشر أسلحة في الفضاء الخارجي، ورفضت اقتراحات للاتفاق على وقف عالمي لهذه الأنشطة.
هناك مثال آخر على إدخال «قواعد» مراجعة: انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو اتفاق متعدّد الأطراف أقرّه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي له أهميّة أساسيّة لعدم انتشار الأسلحة النووية.
مثال آخر هو رفض واشنطن الصريح لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بالإجماع بشأن تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
الفوضى الاقتصادية والمخاطر الأمنيّة نتاج الأحاديّة المفرطة
في المجال الاقتصادي، تتكوّن «القواعد» من الحواجز الحمائية، والعقوبات، وإساءة استخدام وضع الدولار الأميركي كوسيلة أساسية للدفع، وضمان المزايا التنافسية بالطرق غير السوقية، واستخدام قوانين الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية، حتى تجاه أقرب حلفاء الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، يحاول زملاؤنا الأميركيون بثبات تعبئة جميع شركائهم الأجانب لاحتواء روسيا والصين. في الوقت نفسه، لا يخفون رغبتهم في زرع الخلاف بين موسكو وبكين وتقويض التحالفات متعدّدة الأطراف ومشروعات التكامل الإقليمي في أوراسيا وآسيا والمحيط الهادئ التي تعمل خارج إشراف الولايات المتحدة. تمارس الضغوط على البلدان التي لا تلتزم بالقواعد المفروضة عليها ويتجرّؤون على اتخاذ قرارت سيادية سرعان ما توصف بـ «خيار خاطئ» لأنها تتهم بالتعاون مع «أعداء» الولايات المتحدة.
لذلك، ماذا لدينا نتيجة؟ في السياسة، وتآكل الأساس القانوني الدولي، ونمو عدم الاستقرار وانتشار العنف، وتفتيت الفوضى في المشهد العالمي وتعميق عدم الثقة بين المشاركين في الحياة الدولية. في مجال الأمن، عدم وضوح الخط الفاصل بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، عسكرة العلاقات الدولية، زيادة الاعتماد على الأسلحة النووية في مذاهب الأمن الأميركية، وخفض عتبة استخدام هذه الأسلحة، ظهور بؤر جديدة للنزاعات المسلحة، واستمرار التهديد الإرهابي العالمي، وعسكرة الفضاء الإلكتروني. في الاقتصاد العالمي، زيادة التقلّبات، والمنافسة الشديدة على الأسواق، وموارد الطاقة وطرق الإمداد بها، والحروب التجارية وتقويض النظام التجاري المتعدّد الأطراف. يمكننا إضافة موجة من الهجرة وتعميق الصراع العرقي والديني. هل نحن بحاجة إلى مثل هذا النظام العالمي «القائم على القواعد»؟
على هذه الخلفية، فإنّ محاولات الأيديولوجيّين الليبراليين الغربيين لتصوير روسيا على أنها «قوة شدّ إلى الوراء» هي مجرد محاولات سخيفة. كنا من أوّل مَن لفت الانتباه إلى تحوّل النظم السياسية والاقتصادية العالمية التي لا يمكن أن تظلّ ثابتة بسبب المسيرة الموضوعية للتاريخ. من المناسب أن نذكر هنا أنّ مفهوم التعددية القطبية في العلاقات الدولية الذي يعكس بدقة الحقائق الاقتصادية والجيوسياسية الناشئة تمّت صياغته قبل عقدين من قبل رجل الدولة الروسي البارز يفغيني بريماكوف. لا يزال إرثه الفكري ذا صلة الآن ونحن نحتفل بالذكرى التسعين لميلاده.
الإدارة المتعدّدة الأطراف للأزمات تعبير عن الديمقراطية
كما يتّضح من تجربة السنوات الأخيرة، فإنّ استخدام الأدوات الأحادية الجانب لمعالجة المشكلات العالمية محكوم عليه بالفشل. «النظام» الذي يروّج له الغرب لا يلبّي احتياجات التنمية المتناغمة للبشرية. هذا «النظام» غير جامع، ويهدف إلى مراجعة الآليات القانونية الدولية الرئيسية، ويرفض مبدأ العمل الجماعي في العلاقات بين الدول، وبالتعريف لا يمكن أن يولّد حلولاً للمشاكل العالمية التي ستكون قابلة للحياة ومستقرّة على المدى الطويل بدلاً من ذلك من السعي للحصول على تأثير الدعاية داخل الدورة الانتخابية في هذا البلد أو ذاك.
ما الذي تقترحه روسيا؟ بادئ ذي بدء، من الضروري مواكبة العصر والتعرّف على ما هو واضح: ظهور بنية العالم متعدّد المراكز عملية لا رجعة فيها، بغضّ النظر عن مدى صعوبة أيّ شخص في كبحها بشكل مصطنع ناهيك عن إرسالها في الاتجاه المعاكس . لا ترغب معظم الدول في أن تكون رهينة للحسابات الجيوسياسية لطرف آخر، وهي مصمّمة على إدارة السياسات الداخلية والخارجية ذات التوجّه الوطني. من مصلحتنا المشتركة التأكد من أنّ التعددية القطبية لا تستند إلى توازن صارخ للقوة كما كان في المراحل الأولى من تاريخ البشرية على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، ولكن تحمل نوعاً ما، الطبيعة الديمقراطيّة والموحّدة، تأخذ في الاعتبار النهج والشواغل لجميع المشاركين في العلاقات الدولية دون استثناء، وتضمن مستقبلاً مستقراً وآمناً.
هناك بعض الأشخاص في الغرب الذين كثيراً ما يتكهّنون بأنّ النظام العالمي متعدّد المراكز يؤدّي حتماً إلى مزيد من الفوضى والمواجهة، لأنّ «مراكز القوة» ستفشل في التوصل إلى اتفاق في ما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة. ولكن، أولاً، لماذا لا نحاول؟ ماذا لو كان يعمل؟ لذلك، كلّ ما هو ضروري هو بدء المحادثات على أساس أنّ الأطراف يجب أن تسعى إلى تحقيق توازن في المصالح. محاولات لاختراع «القواعد» الخاصة بالآخرين وفرضها على الآخرين، حيث يجب إيقاف الحقيقة المطلقة. من الآن فصاعداً، يجب على جميع الأطراف الامتثال الصارم للمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءاً من احترام المساواة في السيادة بين الدول بصرف النظر عن حجمها أو نظام الحكم أو نموذج التنمية. ومن المفارقات أنّ البلدان التي تصوّر نفسها على أنها نماذج من الديمقراطية تهتمّ بها فعلياً فقط، لأنها تطالب من دول أخرى «بترتيب منزلها» على نمط مستوحىً من الغرب. ولكن بمجرد الحاجة إلى الديمقراطية في العلاقات الحكومية الدولية، فإنهم يتهرّبون فوراً من الحديث الصادق أو يحاولون تفسير القواعد القانونيّة الدولية حسب تقديرهم الخاص.
مفاهيم وتحدّيات لنظام عالمي جديد
لا شك في أنّ الحياة لا تهدأ. أثناء العناية الجيدة بنظام العلاقات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يعتمد على الأمم المتحدة، من الضروري أيضاً توخّي الحذر على الرغم من ضبطه تدريجياً مع واقع المشهد الجيوسياسي الحالي. هذا مهمّ تماماً لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث الغرب، وفقاً لمعايير اليوم، بالغ في التمثيل غير العادل. نحن على ثقة من أنّ إصلاح مجلس الأمن يجب أن يأخذ في الاعتبار مصالح الدول الآسيوية والأفريقية ودول أميركا اللاتينية، في حين أنّ أيّ تصميم من هذا القبيل يجب أن يعتمد على مبدأ التوافق الأوسع بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. يجب أن ينطبق النهج نفسه على تحسين نظام التجارة العالمي، مع إيلاء اهتمام خاص لمواءمة مشاريع التكامل في مختلف المناطق.
يجب أن نستخدم إلى أقصى حدّ إمكانات مجموعة العشرين، وهي هيئة حوكمة عالمية طموحة وشاملة وتمثل مصالح جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية وتتخذ قرارات بالإجماع. تلعب الرابطات الأخرى دوراً متنامياً أيضاً، التحالفات التي تنبئ بروح التعددية القطبية الحقيقية والديمقراطية، بناءً على المشاركة التطوعية والإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة والامتناع عن نهج المواجهة والتكتل. وتشمل هذه الدول «بريكس» ومنظمة شانغهاي للتعاون، التي تعدّ بلادنا عضواً نشطاً فيها وترأسها روسيا في عام 2020.
من الواضح أنه بدون جهد جماعي ودون شراكة غير متحيّزة في إطار الدور التنسيقي المركزي للأمم المتحدة، من المستحيل الحدّ من اتجاهات المواجهة وبناء الثقة والتعامل مع التهديدات والتحديات المشتركة. لقد حان الوقت للتوصل إلى اتفاق بشأن التفسير الموحّد لمبادئ وقواعد القانون الدولي بدلاً من محاولة اتباع المقولة القديمة «قد يذهب الأمر قبل ثبات الحق». من الصعب التوسط في الصفقات بدلاً من طرح الطلبات. لكن المقايضات التي يتمّ التفاوض بشأنها بصبر ستكون وسيلة أكثر موثوقية للتعامل بشكل متوقع مع الشؤون الدولية. هناك حاجة ماسّة لمثل هذا النهج لبدء محادثات موضوعية حول شروط وأحكام نظام موثوق وعادل للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الأطلسية وأوراسيا. تمّ الإعلان عن هذا الهدف مرات عدة على أعلى مستوى في وثائق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. من الضروري الانتقال من الأقوال إلى الأفعال. وقد أعربت كومنولث الدول المستقلة CIS ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي CSTO مراراً وتكراراً عن استعدادهما للمساهمة في هذه الجهود.
من المهمّ زيادة مساعدتنا للحلّ السلمي للعديد من الصراعات، سواء في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية أو الفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. النقطة الأساسية هي أن ترقى إلى مستوى الترتيبات السابقة بدلاً من اختراع ذرائع لرفضها الالتزام بالالتزامات.
اعتباراً من اليوم، من المهمّ بشكل خاص مواجهة التعصّب الديني والإثني. نحث جميع الدول على العمل سوياً للتحضير للمؤتمر العالمي للحوار بين الأديان والأعراق الذي سيُعقد في روسيا في أيار/ مايو 2022 تحت رعاية الاتحاد البرلماني الدولي والأمم المتحدة. يجب على منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي صاغت موقفاً مبدئياً يُدين معاداة السامية أن تتصرّف بعزم مماثل تجاه رهاب المسيحية وكراهية الإسلام.
إنّ أولويتنا غير المشروطة هي مواصلة تقديم المساعدة لتشكيل الشراكة الأوروآسيوية الكبرى دون عوائق، وهي إطار تكامل واسع يمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ والذي يشمل الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي EAEU ، ومنظمة شنغهاي للتعاون SCO ورابطة دول جنوب شرق آسيا آسيان وجميع البلدان الأخرى في القارة الأوروبية الآسيوية، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي. سيكون من غير الحكمة احتواء العمليات الموحّدة أو، الأسوأ من ذلك، إقامة الأسوار. سيكون من الخطأ رفض المزايا الاستراتيجية الواضحة للمنطقة الأوروبية الآسيوية المشتركة في عالم متزايد التنافس.
إنّ التحرك المستمرّ نحو هذا الهدف البنّاء سيتيح لنا ليس فقط الحفاظ على التطور الديناميكي للاقتصادات الوطنية وإزالة العقبات أمام حركة السلع ورأس المال والعمل والخدمات، ولكنه سيخلق أيضاً أساساً قوياً للأمن والاستقرار في جميع أنحاء العالم. المنطقة الواسعة من لشبونة إلى جاكرتا.
عشر سنوت تفاوض أفضل من يوم حرب
هل سيستمرّ العالم متعدّد الأقطاب في الظهور من خلال التعاون وتنسيق المصالح أو من خلال المواجهة والتنافس؟ هذا يعتمد علينا جميعاً. ستواصل روسيا الترويج لأجندة إيجابية وموحدة تهدف إلى إزالة الخطوط الفاصلة القديمة ومنع ظهور خطوط جديدة. قامت روسيا بمبادرات متقدّمة لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي، وإنشاء آليات فعّالة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك الإرهاب الكيميائي والبيولوجي، والاتفاق على تدابير عملية لمنع استخدام الفضاء الإلكتروني لتقويض الأمن القومي أو لأغراض إجرامية أخرى.
لا تزال مقترحاتنا لإطلاق مناقشة جادة حول جميع جوانب الاستقرار الاستراتيجي في العصر الحديث مطروحة.
كانت هناك أفكار طرحت مؤخراً لتعديل جدول الأعمال وتحديث الشروط. تختلف الموضوعات المقترحة للمناقشة بين «التنافس الاستراتيجي» و»الردع المتعدّد الأطراف». المصطلحات قابلة للتفاوض، ولكنها ليست مصطلحات بل هي جوهر المسألة. من الأهمية بمكان الآن بدء حوار استراتيجي حول التهديدات والمخاطر الحالية والسعي إلى توافق في الآراء حول جدول أعمال مقبول بشكل عام. قال رجل دولة بارز آخر من بلدنا، أندريه غروميكو ذكرى مولده الـ 101 التي نحتفل بها هذا العام بحكمة: «من الأفضل أن يكون هناك عشر سنوات من المفاوضات أكثر من يوم حرب».
بقلم وزير الخارجية سيرغي لافروف
مجلة «روسيا في الشؤون العالمية» ـ 20 أيلول 2019