الثبات ـ مقالات مختارة
تواصل الدولة السعودية خسارة أهميّاتها التي راكمتها منذ أكثر من نصف قرن، فتكاد اليوم لا تزيد عن مستوى الكويت بمقاييس الدول إلا بموسم الحج وعديد السكان.
لذلك فما تحتفظ به من أدوار ليس من إبداعات سياساتها، فالنفط إفراز «الجيولوجيا» وتطوّراتها وليس من إبداعات آل سعود وموسم الحج هو من هبات الله الذي فرض على المسلمين الطواف حول الكعبة، الأمر الذي يجعلهم مسيطرين على مئات مليارات الدولارات.
وهنا لا بدّ من استذكار ما قالته المستشارة الألمانية ميركل كيف أنّ رجم الشيطان بمفرده يؤمّن لآل سعود ثلاثين مليار دولار سنوياً.
هذه إذاً عائلة دعمت المخابرات البريطانية مشروعها للسيطرة على نجد في النصف الأول من القرن العشرين وساهمت معها عسكرياً بالتوسع في كلّ المناطق التي كانت تعتقد انكلترا بوجود نفط فيها حتى أنها قصفت بالطائرات بعض الوهابيين من رافضي علاقة آل سعود بالغرب، الأمر الذي يكشف انّ تأسيس السعودية لا علاقة له بمزاعم عن تاريخ سياسي قديم لهذه العائلة. وللموضوعية كان آل سعود في القرن الـ 19 يحلمون بمشيخة طوّرها لهم البريطانيون الى مملكة مساحتها أقلّ بقليل من مليوني كيلومتر مربع تربض على بحار من النفط مع قليل من السكان.
هذا يثبت أنّ وظيفتها التأسيسية الأولى هي استخراج النفط ووضعه في خدمة العالم الغربي، خصوصاً بريطانيا لكن التراجع الدولي للانكليز والفرنسيين مقابل صعود أميركي عمودي ادخل آل سعود في الحماية الأميركية منذ 1945.
منذ ذلك التاريخ استعمل آل سعود عائدات النفط لبناء أدوار سياسية هامة لهم في فلكهم الخليجي والمحور العربي، مضيفين موسم الحج للإمساك بالعالم الإسلامي، ومتوصلين بالرشى الاقتصادية تحت مسمّيات استيراد وتصدير لاكتساب تأييد الدول الكبرى لهم، خصوصاً بعد الانهيار السوفياتي في 1989.
فأصبحت السعودية نجماً يتألق في إطاره الخليجي والعربي والسلامي والدولي مرتكزاً على بيع نحو 12 مليون برميل نفط يومياً ليس لها عشر أثرها على حركة الإنماء الداخلي في السعودية. وهذا يكشف أنّ القسم الأكبر من عائدات الطاقة لا تزال توزّع على آل سعود ومستحقات داخلية أخرى وعالم غربي بسلطات دوله وأنظمته الاقتصادية.
لماذا خسرت السعودية إذاً معظم وظائفها؟
اندمجت السعودية مع المشروع الأميركي لإعادة تشكيل «شرق أوسط جديد» منذ 1990 فوافقت بطلب أميركي على دعم الرئيس العراقي السابق صدام حسين في غزو إيران.
وناصبته العداء بعد محاولة اجتياحه للكويت، فموّلت حملة أميركية للقضاء عليه واحتلال العراق 2003 بعد تأييدها لغزو أميركي سابق لأفغانستان في 2001.
لم يكتفِ آل سعود بهذه التواطؤات مشكلين جزءاً من المشروع الأميركي في العالم العربي الذي يلحظ إعادة تشكيل دوله وتفتيتها، من سورية والعراق ومصر وتونس وليبيا الى الصومال ولبنان. واضعين إمكانات كبيرة بتصرّف منظمات إرهابية تسليحاً وتمويلاً، كما اعترف في مراحل لاحقة رئيس حكومة ووزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم، وفجأة في 2014 نظموا عدواناً ضخماً بتحالف عسكري مع الإمارات ونحو ستين دولة غربية وعربية وقوات كبيرة من المرتزقة، لاحتلال اليمن مبرّرين عملهم بسيطرة أنصار الله على العاصمة صنعاء.
بالنتيجة فشل الدور السعودي إلى جانب الأميركيين في معظم المشرق العربي متلقياً هزيمة كبيرة في اليمن الذي كان يتوقع آل سعود احتلاله في أسبوعين على الأكثر، كما كادوا يحتلون قطر بعد نزاع سياسي معها، ولم ينجحوا لعدم تلقيهم موافقة أميركية.
فأصبح آل سعود مأزومين في سورية والعراق وتركيا وإيران وقطر والكويت وعُمان الى جانب علاقات تحكمها الرشى مع مصر والأردن والتنافر الضمني مع الإمارات التي استولت على عدن بحرب أدّت الى طرد الموالين للسعودية منها.
وجاءت عملية اغتيال الإعلامي السعودي جمال الخاشقجي التي نفذتها المخابرات السعودية بأمر من ولي العهد محمد بن سلمان لتتعرّض لانتقادات أوروبية عنيفة أصابت آل سعود وهجمات من أعضاء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري الأميركيين.
لكن ما سدّد ضربة كبيرة لوظائف السعودية هو اليمن الذي جابهها مقاوماً عدوانها ومنتقلاً من الدفاع الى الهجوم من أعالي صعدة نحو عسير، ولم يكتفِ بهذا القدر مطلقاً صواريخه وطائراته المسيّرة من وسط الشمال اليمني حتى أقصى العمق السعودي عند مصافي «الشيبة» النفطية قرب حدود الإمارات.
يتبيّن انّ انتقال اليمن من الدفاع الى الهجوم وقصفه مناطق سعودية تبعد آلاف الأميال تمنحه ميزتين: التأثير على حركة الملاحة في بحر الخليج والبحر الأحمر ومقدّمات المحيط الهندي لناحية بحر عدن، أما الثانية فتتعلق بقدرة اليمن على تقليص الوظيفة النفطية للسعودية لأنّ مسيراتها وصواريخها تستطيع الوصول إلى أبعد نقطة سعودية عن اليمن.
بذلك يتراجع الدور السعودي العالمي والأهمية الإسلامية والعربية وهيمنته على الخليج مقابل تراجع نسبي لدورها النفطي العالمي، بسبب اكتفاء أميركي من نفطها وغازها الصخريين ووجود فوائض إنتاج كبيرة في غير مكان.
فلا يبقى إلا موسم الحج، إلا أنّ سعودية متراجعة دولياً وعربياً واسلامياً وخليجياً لا تستطيع التحكم بشكل كامل بموسم حجّ اعتادت على تسييسه لمصلحة سياساتها حتى أصبحت اليوم حريصة على تحقيق توازن دقيق في وفود الحجيج بما يشمل حجاج الدول المتخاصمة مع السعودية. فماذا يبقى لها إذاً؟
تبحث السعودية عن مخرج لعدوانها على اليمن لذلك فهي مستعدة للانحناء أمام عاصفة الهزائم بما يحفظ وضعيها الداخلي والخارجي على ان تعوّض خسائرها في مراحل لاحقة؟
هذا ما تريده. لكن الإصرار الاميركي على توريطها في الإقليم لا يتطابق مع نياتها فهل تتمرّد؟
تجربة عدن مخيفة، لأنّ آل سعود يعتقدون انّ الأميركيين هم الذين أوعزوا للمجلس الانتقالي المدعوم إماراتياً بالسيطرة على عدن وطرد أعوان آل سعود، لذلك يخشون من طردهم من السعودية نفسها فيواصلون البحث عن حلّ ينقذهم من حرب اليمن ولا يزعج الأميركي. وهذا من أصعب الحلول وأكثرها استحالة…
د. وفيق إبراهيم ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً