الثبات ـ تصوف
المديح النبوي فن ازدهر في الشعر العربي منذ الأعشى، وكعب بن زهير، وحسان بن ثابت، ويعدُّ في طليعة الشعر الإسلامي، وزاد الإقبال عليه في العصر المملوكي، وفيه نجد صورة للدعوة الإسلامية وتزكيتها والاهتمام برسول الله ﷺ وسيرته وخلقه العظيم، وبيان معجزاته، ولقد ارتبط المديح بالتصوف والروحانيات والوجدانيات، وذلك لأن للصوفية في وعيهم المتميّز لهم وسائل تعبيريّة خاصّة، وأفكار وموضوعات حساسة في العقيدة، مما أثار عليهم حفيظة بعض رجال الدين الذين لا يفقهون من الدين إلا رسمه فاعترضوا على ما عبر عنه شعراء الصوفية.
و الشِّعر باعتباره إبداعاً، فإنه ينطلق من التجربة الذاتيّة والشّخصيّة للشّاعر أو الأديب، ولا يكون الشعر الحقيقي إلا صادراً من الوجدان ومفضياً إليه سواء تناول الشّاعر فيه موضوعات عامة أو موضوعات خاصة فكل ما يقوله الشاعر لابدَّ أنْ يكونَ مرتبطاً بذات الشاعر.
أما الإمام البوصيري الذي لا تُذكر المدائح النبوية إلا ويُذكرُ اسمه، يعتبرُ من أهمّ الشعراء في هذا الفن وله قصائد مشهورة منها بردة المديح والقصيدة المحمدية، فلم يحظَ نصٌّ شعريّ، أو نثريّ في تاريخ الأدب العرييّ على مرّ عصوره الممتدة من العهد الجاهليّ، وحتى العصر الحديث بالاهتمام على جميع المستويات : الرّسمي، والشّعبي، والأكاديميّ، بمثل ما حظيت به بُردة الإمام البوصيري، حيثُ بها تغنّى المنشدون، وعارضها الشعراء، وتفنن في شرحها الكُتّاب، وتبارى الخطاطون في كتابتها بجميع الخطوط، والقُصاص في روايتها، والطلاب والباحثون تسابقوا لدراستها، وكذا لم تسلمْ من نقد النقاد، وتقوّل المعرضين والمنكرين، ولكنها مازالت بسحرها تستولي على القلوب والأفئدة وتخلبُ لبَّ العارفين وأهل الوجد والذوق العرفاني، وما ذاك إلا بسبب صلة البوصيري بالحبيب الأعظم ﷺ وصدق نيته فيها، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل .
الإمام البوصيري
هو الإمام شرف الدين محمّد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، ترجع أصوله إلى قبيلة صنهاجة إحدى قبائل البربر، ولد في قرية دلاص من صعيد مص، في عام ستمئة وثمانية للهجرة، درس السيرة النبوية وحفظ القرآن الكريم منذ صغره، تلقى العلوم على يد عدد من العلماء منهم: أبو حيان الغرناطي الأندلسيّ، وفتح الدين أبو الفتح بن محمد العمري الأندلسي الإشبيلي المصري، ونظم الشعر وهو صغير السن، وأكثر ما كتب من الشعر كان في مدح الرسول ﷺ واشتهرت مدائحه بالعاطفة الصادقة، والحسّ المرهف وصدق التعبير وجودة السبك ودقة المعاني، وأكثر من استخدام الأساليب البلاغية كالبديع والصور الفنية، وقد كتب عددًا كبيرًا من الشعر في مدح الرسول ﷺ وبردة المديح من أشهر قصائده في هذا الفن .
يحدثنا البوصيري عن سبب تأليفه للبردة فيقول: داهمني الفالج (الشلل النصفي) فأبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي ﷺ فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردته الشريفة، فقام البوصيري من وقته معافى وقد شفاه الله،وأضحت البردة بلسم جراح العاشقين، ومرهم أسقام الوالهين، ومطمح أرواح المتعلقين بجناب سيّد المرسلين، وأصبحت أساساً في جميع مجالس الذِّكرِ والحِلَقِ الصُّوفية في أنحاء العالم بعد أن تُرجِمَت إلى عِدَةِ لُغَات، وهي ترياق مجرب لقضاء الحوائج .
وله أيضاً القصيدة المحمدية التي ذكر فيها أخلاق االنبي ﷺ وشمائله، وتتكون من ستة عشر بيتًا من الشعر،وهذه أبيات القصيدة المحمدية كاملة:
مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ مُحَمَّدٌ خَيْرٌ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
مُحَمَّدٌ باسِطُ المَعْرُوفِ جَامِعَةً مُحَمَّدٌ صاحِبُ الإِحْسانِ والكَرَمِ
مُحَمَّدٌ تاجُ رُسْلٍ اللهِ قاطِبَةً مُحَمَّدٌ صادِقُ الأٌقْوَالِ والكَلِمِ
مُحَمَّدٌ ثابِتُ المِيثاقِ حافِظُهُ مُحَمَّدٌ طيِّبُ الأخْلاقِ والشِّيَمِ
مُحَمَّدٌ خُبِيَتْ بالنُّورِ طِينَتُهُ مُحَمَّدٌ لَمْ يَزَلْ نُوراً مِنَ القِدَمِ
مُحَمَّدٌ حاكِمٌ بالعَدْلِ ذُو شَرَفٍ مُحَمَّدٌ مَعْدِنُ الإنْعامِ وَالحِكَمِ
مُحَمَّدٌ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ مِنْ مُضَرٍ مُحَمَّدٌ خَيْرُ رُسْلِ اللهِ كُلِّهِمِ
مُحَمَّدٌ دِينُهُ حَقَّ النَّذِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ مُجْمَلٌ حَقَاً عَلَى عَلَمِ
مُحَمَّدٌ ذِكْرُهُ رُوحٌ لأَنْفُسِنَا مُحَمَّدٌ شُكْرُهُ فَرْضٌ عَلَى الأُمَمِ
مُحَمَّدٌ زِينَةُ الدُّنْيَا ومُهْجَتُها مُحَمَّدٌ كاشِفُ الغُمَّاتِ وَالظُّلَمِ
مُحَمَّدٌ سَيِّدٌ طابَتْ مناقِبُهُ مُحَمَّدٌ صاغَهُ الرَّحْمنُ بِالنِّعَمِ
مُحَمَّدٌ صَفْوَةُ البارِي وخِيرَتُهُ مُحَمَّدٌ طاهِرٌ ساتِرُ التُّهَمِ
مُحَمَّدٌ ضاحِكٌ لِلضَّيْفِ مَكْرُمَةً مُحَمَّدٌ جارُهُ واللهِ لَمْ يُضَمِ
مُحَمَّدٌ طابَتِ الدُّنيا ببِعْثَتِهِ مُحَمَّدٌ جاءَ بالآياتِ والْحِكَمِ
مُحَمَّدٌ يَوْمَ بَعْثِ النَّاسِ شَافِعُنَا مُحَمَّدٌ نُورُهُ الهادِي مِنَ الظُّلَمِ
مُحَمَّدٌ قائِمٌ لله ذو هممٍ مُحَمَّدٌ خَاتِمَ لِلرُّسْلِ كُلِّهِمِ
مولاي صَلِّ وسَلِّم دائِماً أبداً على حبيبكَ خَيرِ الخَلقِ كُلِّهِمِ