الثبات ـ مقالات مختارة
نشرت الصحف الاميركية في الفترة الاخيرة كلاما بالغ الاهمية للرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر، قاله للرئيس الاميركي الحالي دوناد ترامب خلال لقاء جمعهما البيت الأبيض بناء على طلب سيده للرئيس السابق، لكي يحدّثه عن الصين. وقد أورد جيمي كارتر محتوى اللقاء بشكلٍ علنيّ خلال جمعية عمومية معمدانية في جورجيا.
قال كارتر لترامب:
"أنت تخشى أن تسبقنا الصين، وأنا أتفق معك. لكن هل تعرف لماذا الصين في طريقها لتجاوزنا؟ لقد قمت أنا بتطبيع العلاقات الديبلوماسية مع بكين سنة 1979. منذ ذلك التاريخ، هل تعلم كم عدد المرات التي خاضت فيها الصين الحرب ضد أيٍّ كان؟ ..ولا مرة. أما نحن، فقد بقينا في حالة حرب دائمة. الولايات المتحدة هي البلد الأكثر ولعاً بالحروب في تاريخ العالم، لأنها ترغب بفرض القيم الأميركية على البلدان الأخرى، بينما تستثمر الصين مواردها في مشاريع مثل سكك الحديد للقطارات فائقة السرعة بدل تخصيصها للنفقات العسكرية. كم كيلو متر من السكك الحديدية للقطارات فائقة السرعة لدينا في بلدنا؟ لقد بدّدنا 3000 مليار دولار على النفقات العسكرية. أما الصين فلم تبدّد فلساً واحداً على الحروب، ولذلك هي تتفوّق علينا في جميع المجالات تقريباً".
وأضاف كارتر: لو أننا أنفقنا 3000 مليار دولار على البنية التحتية الأميركية، لكان لدينا سكك حديد للقطارات فائقة السرعة وجسور لا تنهار وطرق تتم صيانتها بشكلٍ صحيح. كما أن نظامنا التعليمي سوف يصبح جيداً مثل نظيره في كوريا الجنوبية أو هونغ كونغ".(انتهى كلام كارتر).
الكاتب الفرنسي واستاذ الفلسفة والعلاقات الدولية برونو غيغ ،كتب في 23 نيسان الماضي مقالة بعنوان "سقوط النسر بات وشيكا"، أورد فيه كلام كارتر لترامب أعلاه،وشرّح فيه واقع الولايات المتحدة الأميركية، وقال فيه "إنه أمر ذو دلالةٍ كبيرة عن طبيعة السلطة في ذلك البلد أن لا يخطر هذا التفكير السليم أبداً في بال مسؤولٍ أميركي. إن وضع العلاقة المرضية مع العنف المسلح موضع السؤال هو أمر صعب بالتأكيد لدولةٍ تبلغ نسبة نفقاتها العسكرية 45% من الإنفاق العسكري العالمي، ولديها 725 قاعدة عسكرية في الخارج، ويتحكّم صانعو الأسلحة فيها بالدولة العميقة ويحددون السياسة الخارجية المسؤولة عن 20 مليون قتيل منذ سنة 1945. في هذا الصدد يقول مارتن لوثر كينغ : "إن حرب فييتنام هي أحد أعراض المرض الذي يضرب الذهنية الأميركية التي تقوم على دعائم ثلاث هي العنصرية والمادية والعسكرة".
ويسأل غيغ: هل حكم على الولايات المتحدة، بسبب خطأ قادتها، أن تعرف ذات المصير الذي عرفته تلك الإمبراطوريات التي بادت بسبب طموحاتها المنفلتة من كل عقال، والتي اختنقت بالمعنى الحرفي بسبب الوزن الباهظ لنفقاتها العسكرية؟
ويضيف: "في نهاية ولايته، سنة 1959، أدان الرئيس إيزنهاور بكلماتٍ نبوئية المجمع العسكري - الصناعي الذي وضع عبئاً ثقيلاً على المجتمع الأميركي. لم يكن إيزنهاور، مثله مثل دونالد ترامب أو باراك أوباما، مهتماً بمصير الشعوب الجائعة أو التي تعرضت للغزو وللقصف على يد العم سام باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكنه مثل جيمي كارتر اليوم، استشعر بدون شك أن سباق التسلح سوف يكون السبب الرئيسي لسقوط الإمبراطورية".
وبعد أن يعدد غيغ المجازر التي ارتكبتها الولايات المتحدة والنفقات العسكرية التي هدرتها في حروبها الخارجية يقول: "في الوقت الذي تستثمر فيه الصين في البنى التحتية المدنية، تتخلى الولايات المتحدة عن تلك البنى لمصلحة صناعة السلاح. تتفاخر واشنطن وتتحدّث بصخبٍ في الخارج، لكنها تترك البلاد تتفسّخ في الداخل. الناتج الإجمالي المحلي هائل بالنسبة إلى عدد السكان، لكن 20% منهم يقبعون في الفقر، السجون مكتظة: يشكّل عدد السجناء الأميركيين 25% من عدد السجناء حول العالم، 40% من السكان مصابون بداء السمنة. معدل أعمار الأميركيين (79.6 سنة) يأتي بعد معدل أعمار الكوبيين (80سنة). كيف يمكن لبلدٍ اشتراكي صغير، وخاضع للحصار، أن يكون أفضل من قوةٍ عظمى رأسمالية مكلّلة بالهيمنة الكونية؟ الجواب هو أننا يجب أن نصدق أن العناية الصحية لعامة الشعب في الولايات المتحدة ليست من أولويات النخب.
ويضيف: ربح دونالد ترامب، وهو منافس بارع، الانتخابات سنة 2016 بوعوده باستعادة عظمة الولايات المتحدة وبتعهّده باستعادة الوظائف التي ضاعت بسبب العولمة المنفلتة. لكن النتائج التي تحققت، وبسبب غياب الإصلاحات البنيوية، سكبت الماء البارد على شعوذاته الملتهبة، حيث ارتفع العجز التجاري الأميركي مع بقية العالم إلى رقمٍ قياسي تاريخي سنة 2018 ليبلغ 891 مليار دولار ،وليسحق الرقم السابق عن سنة 2017 والذي بلغ 795 مليارا. فشل دونالد ترامب بشكلٍ كامل في تغيير الاتجاه، وتعتبر السنتان الأوليتان من عهده الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، من ناحية التجارة.ويلعب الاختلال في التوازن بالمبادلات مع الصين الدور الأكبر في هذا العجز الإجمالي، حيث بلغ في سنة 2018 ما مقداره 419 مليار دولار، وهو رقم قياسي تاريخي يتجاوز الحصيلة الكارثية لسنة 2017 والتي بلغت 375 مليارا. لقد فاقمت الحرب التجارية التي انخرط فيها ترامب العجز التجاري الأميركي. ففي الوقت الذي تواصل فيه المستوردات الأميركية من المنتجات الصينية بالازدياد (أكثر من 7%)، قلّصت الصين وارداتها من الولايات المتحدة. أراد دونالد ترامب استعمال سلاح الرسوم الجمركية لإعادة التوازن إلى الميزان التجاري الأميركي. لم يكن ذلك أمراً غير شرعي، لكنّه غير واقعي بالنسبة إلى بلدٍ ربط مصيره بالعولمة التي فرضتها الشركات الأميركية العابرة للقومية.
ويعدد غيغ بالأرقام: بالإضافة إلى العجز التجاري، فقد تعمّق العجز في الميزانية الاتحادية (779 مليار دولار مقابل 666 مليار سنة 2017). لقد ارتفعت النفقات العسكرية بشكلٍ مذهل. حيث أن ميزانية وزارة الدفاع لسنة 2019 هي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة وقد وصلت إلى 686 مليار دولار. بينما أنفقت الصين في السنة ذاتها 175 مليار، رغم أن عدد سكانها يبلغ أربعة أضعاف الولايات المتحدة. وليس من المفاجئ أن تضرب الديون الاتحادية رقماً قياسياً بلغ 22175 مليار دولار. أما الديون الخاصة بالشركات والأفراد فهي تصيب المرء بالدوار إذ بلغت 73000 مليار دولار.
ويخلص غيغ: "إن الولايات المتحدة تعيش على القروض وعلى حساب بقية العالم، لكن إلى متى؟.. فبحسب الدراسة الأخيرة التي قام بها مكتب PwC للتدقيق (الدراسة بعنوان، "العالم سنة 2050: كيف سيتغير الاقتصاد العالمي في السنوات الثلاثين المقبلة")، فإن "الدول الناشئة" (الصين، الهند، البرازيل، إندونيسيا، المكسيك، روسيا، تركيا) يمكن أن تشكل 50% من الناتج الإجمالي العالمي سنة 2050، بينما ستنخفض حصّة السبعة الكبار (الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان) إلى 20%. إن سقوط النسر بات وشيكاً".
في الخلاصة، وأمام هذا التحليل المنطقي المقترن بالأرقام لكاتب كبير من طراز برونو غيغ ،لا يستطيع أي متابع الا أن يتساءل:هل فعلا بات سقوط النسر وشيكا؟
صحيح أن الولايات المتحدة هي اليوم أقوى دولة في العالم في كل المجالات، ولم يسبق لامبراطورية في التاريخ أن سيطرت على القرار العالمي وتحكمت بمصير البشرية كما تفعل أميركا اليوم.وليس من قوة اليوم تستطيع اسقاط الولايات المتحدة من الخارج، لكن كل الامبراطوريات التي سادت ثم بادت خلال التاريخ، سقطت من الداخل أولا، ويسّرت للخارج بعد ذلك القضاء عليها وجعلها أثرا بعد عين.ومن دون شك سوف يأتي اليوم الذي تتفكك فيه الولايات المتحدة من الداخل. هكذا بادت المنظومة السوفياتية ،وقبلها الأمبراطورية العثمانية، وقبلها الدولة العباسية والدولة الأموية.إن 22 ألف مليار دولار من الديون ليس رقما عاديا ،أيا كان دخل الإمبراطورية الأميركية. وكل الامبراطوريات السابقة سقطت اقتصاديا قبل أن يسقط نسرها الجبار. المسألة مسألة وقت.. ومن يعش ير..
واصف عواضة ـ الحوار نيوز
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً