الثبات ـ ثقافة
تعتبر ساحة الشهداء من أبرز وأهم المناطق في العاصمة اللبنانية بيروت، والى جانب وقوعها في وسط بيروت الذي يعتبر منطقة سياحية، إلا أن الساحة أيضاً تمتلك الكثير من الدلالات التاريخية التي ترتبط بالأحداث التي مرت على لبنان، وأبرزها الحرب الاهلية و "ثورة الأرز" التي انطلقت بعد استشهاد رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، حيث تحولت هذه الساحة إلى محجّ للمتظاهرين.
لكن كثيرون لا يعرفون قصة هذه الساحة والتطورات التي تعاقبت عليها من اليوم الذي كانت تحمل فيه اسم "بستان فخر الدين" إلى اليوم الذي أصبحت تحمل اسم ساحة البرج أو ساحة الشهداء. هذه الساحة ظهرت إلى الوجود في عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي كان يحاول أن يُدخل إلى بيروت الطابع الأجنبي من المؤسسات والعمارات والمنشآت.
وبحسب المصادر التاريخيّة، فإن فخر الدين اصطحب معه لتحقيق رغبته العُمرانيّة المهندسين الإيطاليين الذين كلفوا بتشييد قصر لائق لهذا الأمير المعني، والذي لم يبقَ منه إلا أنقاض أُزيلت آخر مرة في عهد الانتداب الفرنسي عام 1932 حينما شيّد المرحوم عبود عبد الرزّاق مكانها سينما أوبرا التي حلّت محل البورصة القديمة في بيروت. الأمير المعني حرص على أن يجعل من الأراضي المحيطة بقصره حديقة عامرة بأنواع الأشجار المثمرة، كما حرص على أن يجعل فيها مرابط لخيله، ووضع في جانبها الأنواع المختلفة من الحيوانات الأليفة والمفترسة. ومن هنا ظهر خان الوحش الذي كان قائماً مكان سوق سرسق، والذي يشكل امتداداً لحديقة البرج، وهذه الحديقة، كانت تُعرف كذلك باسم بستان فخر الدين.
في أواخر القرن الثامن عشر حكم بيروت أحمد باشا الجزّار الذي استطاع أن ينفرد بالسلطة على المدينة بعد أن استخلصها من حاكمها السابق الأمير يوسف الشهابي، ولاحقاً طلب أحد الإقطاعيين ظاهر العمر الزيداني، المتسلط على منطقة الجليل في فلسطين، من أصدقائه الروس المرابطين بأسطولهم في البحر أن يسترجعوا بيروت من الجزّار للأمير، وبالفعل، استجاب قائد الأسطول الروسي لطلب ظاهر العمر الزيداني وقصف بيروت بقنابله، ولكن المحاولة باءت بالفشل لأن الجزّار كان قد حصّن بيروت جيداً، ورمّم قصر الأمير فخر الدين واتخذ منه برجاً لردّ غارة المغيرين. واضطر الأسطول الروسي بعد ذلك، إلى أن يُنزل مشاته في ضواحي بيروت ليضرب البرج عن قرب بالمدافع التي نقلها إلى البرّ، ووضع هذه المدافع في الساحة التي تقع قرب البرج، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الناس يطلقون على الساحة إسم "ساحة المدفع".
عام 1831 دخلت الجيوش المصريّة إلى بيروت تحت أقواس النصر، وعلى رأسها القائد إبرهيم باشا، واتخذت ساحة البرج معسكراً لهذا القائد مع جيوشه، وقد أراد الفاتحون أن يستفيدوا من حصون الجزّار فعملوا أول ما عملوا على ترميم البرج، وأطلقوا عليه اسم "البرج الكشّاف" وكان ارتفاعه 60 قدماً وسماكة جداره 12 قدماً، ثم اتخذوا منه قاعدة يرصدون منها الغزاة الذين قد يأتون لاحتلال البلاد من البر والبحر. ومنذ ذلك الوقت أطلق الناس على هذا البرج اسم برج الكشاف، لكن العامة من البيارتة أطلقت عليه اسم برج الكشّاش.
لاحقاً، وعلى أثر الانقلاب الذي أودى بعرش السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، شهدت ساحة البرج انقلاباً آخر، وحتى يزيل الناس كل أثر للسلطان المخلوع، طلب المسؤولون وأفراد المؤسسات الشعبيّة إلى اجتماع انتهى بإزاحة الستار عن لوحة رفعت فوق ساحة البرج مكتوب عليها "ساحة الحرية"، ولكن الاسم الجديد لم يستمر طويلاً، إذ قرر الرأي العام في بيروت إعادة النظر في هذه التسمية ووضع إسم جديد مكانها للساحة وهو "ساحة الإتحاد". وفي عام 1918 وقعت البلاد العربيّة صريعة تحت وطأة الغزو الأوروبي، إذ بالسلطات الفرنسية المحتلة تتجه إلى ساحة البرج لتترك عليها بصمات فارقة، فوجد الطاغية الفرنسي الجنرال غورو في هذه الساحة خير مكان لتخليد ذكرى ضحايا جمال باشا السّفاح، فأصدر أمراً بأن تصبح "ساحة البرج" مرة أخرى "ساحة الشهداء". وأرادت السلطات الفرنسيّة الحاكمة أن تطبع ساحة البرج بالطابع الذي يتلاءم وفكرتها عن الاستشهاد، فأوعزت بأن يقام نصب كان يمثّل الذل والخنوع، وهو عبارة عن امرأتين مسلمة وأخرى نصرانيّة تندبان فوق قبر يرمز إلى مدافن الشهداء، لكن هذا التمثال هُدم واستبدل بآخر ، والذي هو موجود اليوم.