الحب الإلهي .. العارف بالله أبو مدين الغوث

الخميس 11 حزيران , 2020 02:39 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

الحب الإلهي

 العارف بالله أبو مدين الغوث

 

 الشعر الصوفي شعر أفاضه الله على قلوب أوليائه من الفيوضات النورانية، وارتسم على قلوبهم بالأسرار العرفانية الجمالية، وتجلى عليهم بأسمائه وصفاته، فتحققوا بحقائق القرب، وظهرت لهم مكونات الأسرار الربانية، التي ألهمتهم سر العشق والحب الإلهي للوصول به إلى الرب جل وعلا، فكان من مقومات هذا الحب أن أشرقت تلك الأنوار على ألسنتهم شعرا رقراقا، عبروا خلاله بلغتهم الخاصة التي لايفهمها إلا من شرب من هذا السر الالهي.

وعلاوة على ذلك؛  فالشعر الصوفي يحتوي على رقائق ورموز ومواجيد وإشارات وحكم، تدفع الصوفي لمزيد من العشق والحب والإشتياق لمحبوبه. فهو جميل في عباراته، ومشرق في أسلوبه وأفكاره، عبروا فيها عن أذواقهم وأحوالهم وأشواقهم، تعشقوا فيها الذات العلية، وكانت فلسفتهم مبنية بالذات على الحب المطلق الغير مقيد بالنغم والسماع الذي يضفي طابع الإنكسار والخضوع لله تعالى، فالشعر الصوفي في حقيقته وتجلياته يستند الى الحب الإلهي، الذي هو أصل وجود الحب في العالم.

خاض أبو مدين الغوث في التجربة الصوفية وتعلق بالذات العلية تعلقا أفناه عما سواه، وصعقته تجليات الذات فنراه لايتصور حياةً دون مطالعة أنواره، واستشراف عرفانه، ودوام اتصاله، فيصف أبو مدين حبه للذات الإلهية بأن البعد عن المحبوب موت والقرب منه حياة، ولايتصور غياب تجليات الذات عنه لنفس واحد، فنجد ذكرالحبيب في مجلسه أنه يصيبه بالرعدة والاهتزاز وعدم الاستقرار لعدم القدرة على التحمل والصبر، وذلك تعبيرا منه عن وجده باهتزازه إذا ذكر اسم محبوبه.

ويعلل ذلك الاهتزاز لما يعانيه من حرقة الحب الذي استقر في قلبه، فإذا ماسمع الشادي يشدو باسمه اهتز شوقا للقاء، فيقول بلغة عذرية صوفية عن مواجيده تجاه الذات الالهية:

    تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا    وتذهبُ بالأشواق أرواحنا منــــا

    فبعدكم موت وقربكم حيــــاة    فإن غبتموا عنا ولو نفسًا متنــــا

    نموت ببُعدكم ونحيا بقُربكــم   وإن جاءنا عنكم بشيرُ اللِّقا عِشنـا

    ونحيا بِذكراكم إذا لم نَراكــم    ألا إن تذكارَ الأحبَّة ينعشنــــــــا

    فلَو معانيكم تراها قلوبُنـــــــا    إذا نحنُ ايقاظٌ وفي النومِ إن غبنا

 

إنه تعلق ذاك العاشق الواله الفاني عن ذات محبوبه، فلا يرى في الوجود سواه، فحياته بذكر محبوبه وهو غاية مطلوبه، يعيش مستغرقا استغراقا تاما في التجليات ليبقى قريبا منه على الدوام، وهذه هي الحياة، تدوم بدوام الاتصال التي تجعل الصوفي معمرا وقته بمحبوبه، فكل حركة وسكون وشكل يرى فيها محبوبه، مهما كان ذلك الشيء، والحب الصوفي يفنى بجمال الذات الإلهية عن ذاته مذ أطلت عليه تلك البوارق والطوالع واللوامع الربانية التي تزكو بها نفسه، ونجد هذا حاضرا بقوة في شعرالتلمساني أبو مدين الغوث بقوله:

        فالعارفون فنوا ولما يشهــــدوا   شيئا سوى المتكبر المتعـــــــالِ

        ورأوا سواه على الحقيقة هالكا   في الحال والماضي والاستقبالِ

        تجد الجميعَ يُشيرُ نحو جلالـــه   بلسانِ حالٍ أو لسانِ مقـــــــــالِ

 

هذا حال المحبين إذا ذكر المحبوب يحن شوقا، ولا يرى استقرارا، وهو مرض العشاق، كالذي أصاب أبي صخر الهذلي من زلزال يهز أعماقه، ويرجَّ قلبه، إذا ماذكرت ليلى، فتأخذه الرعدة وكأنما أصابه مس وجنون. فيقول:

        وإني لتعروني لذكراك هزةٌ   كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ

        فيا حبها زدني جوىً كل ليلةٍ  وياسلوةَ الأيام موعدُكِ الحشـــرُ

 

يلتقي أبو مدين الغوث مع العذريين بجنون الحب، بل إنه يوافقهم في شعره كما هو مثبت في ديوانه، وهذه سمة بارزة في شخصيته، فهو الذي عَرف محبوبه حق المعرفة؛ وهذه المعرفة في حقيقتها تعبير وجداني خالص يصل إليه العبد من كثرة ارتباطه واشتياقه لمحبوبه، فالحب الإلهي شق عظيم من الإحسان الروحي الباطني الذي يسمو به المريد صاحب الطريقة الوجدانية؛ إلى معاني العشق والحب الإلهي.

يُستشف من شخصية أبو مدين وسيرته الحافلة بالحب والوجدان؛ أنه كان يشبه العذريين في حبه لله تعالى، وأنه استطاع الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي كان يبحث عنها منذ نشأته، فحاول مجاهدة نفسه ومكابدتها بُغية استشعارالحب الإلهي وتذوق معناه؛ وهذا ماجعله يرتقي بشعره الصوفي إلى حب ربه محبة حقيقية خالصة مكنته من العشق الإلهي للمولى عز وجل.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل