أقلام الثبات
من قبيل الصدفة حصول التزامن بين انعقاد جلسات مجلس النواب اللبناني لمناقشة البيان الوزاري ومنح الثقة لحكومة نواف سلام، وبين جلسات المؤتمر الوطني العام في سورية، وانتهت الجلسات النيابية اللبنانية بالكثير من الكلام الذي يُلاك في بازارات المزاد، وانتهى المؤتمر السوري إلى مقررات كلامية أبعد ما تكون عن أرض الواقع وحجم التحديات الوجودية.
القاسم المشترك بين البلدين، أن "الإسرائيلي" يحلل لنفسه المناورة حول النقاط الخمس التي ما زال يحتلها في جنوب لبنان، مع استمرار الخروقات والاعتداءات سواء على الحدود أو في العمق اللبناني، فيما الجنوب السوري بأكمله من سفوح جبل الشيخ إلى القنيطرة ودرعا والسويداء أراضٍ مُباحة له، بإرادة مواطنين سوريين قاطعوا المؤتمر، ويُنادون بقيام دولة مذهبية ملتصقة بالجولان المحتلّ، وتفصلها داخلياً عن الدولة الكردية في الشمال الشرقي، "دويلة أحمد الشرع" في الوسط.
الواقع اللبناني قد يكون جزئياً أفضل من الواقع السوري، لكن ملء الشغور الرئاسي وتشكيل حكومة جديدة ومنحها الثقة، لا يعني أن الأمور على خير ما يرام، وقد تظهَّرت التباينات في المواقف الوطنية خلال الأشهر الخمسة، التي فصلت بين استشهاد سماحة السيد نصرالله وتشييعه عبر مليونية شعبية تليق به، بحيث توالت مواقف "جماعات السفارات" من سلاح المقاومة، والمُطالبَة بتجيير مسألة تحرير المناطق المحتلة مؤخراً إضافة إلى تلك المحتلة سابقاً في شبعا وكفرشوبا إلى مجلس الأمن والقنوات الدبلوماسية، مع ارتفاع أصوات تدعو للتطبيع!
الخطير الذي يحصل من جنوب لبنان حتى جنوب سورية، هي تلك التي يعتبرها العدو الصهيوني منطقة عازلة، ونجح إعلامياً على المستوى الدولي في تسويق مآرب احتلاله، بحيث بات البقاء في جنوب لبنان ذريعة لحماية مستوطناته الشمالية من هجمات مرتقبة لحزب الله، وتوسيع المنطقة العازلة في جنوب سورية حتى حدود الأردن ذريعة جديدة لحماية جوار الجولان السوري المحتل مما يعتبرها مجموعات إرهابية سيطرت على الحكم في سورية.
وما ساعد الكيان "الإسرائيلي" في اجتياح الجنوب السوري، هو رغبة بعض أبناء السويداء والقنيطرة التجاور مع دروز الجولان، بصرف النظر عن نوعية الحكم الذاتي على غرار سردية الأكراد في الشمال الشرقي.
وقد أعلن دروز الجنوب السوري أحد أسباب مقاطعتهم للمؤتمر الوطني السوري، أن لا ضمانات دولية لهذا المؤتمر في جعل سورية دولة مدنية.
ومع رفض الجماعات المسلحة دخول "هيئة تحرير الشام" عسكرياً إلى محافظات الجنوب، تظهر المدرعات والآليات "الإسرائيلية" في الفيديوهات تجول في هذه المحافظات رافعة علميّ الكيان الصهيوني و"الدولة المذهبية".
وكما رفضت محافظات الجنوب المشاركة في المؤتمر الوطني، قاطعت الشخصيات الكردية هذا المؤتمر، بسبب عدم توجيه الدعوة إلى "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) وإلى "المجلس الوطني الكردي"، علماً بأن موقف الأكراد واضح في إصرارهم على الحكم الذاتي، رغم الرفض التركي لقيام "دولة كردية" على الحدود التركية.
الغريب في التركيبة الكردية بشمال شرق سورية، ليس في سيطرة "قسد" على الوضع العسكري، ولا في وجود "حزب العمال الكردستاني" ولا المجلس الوطني الكردي، بل هناك نحو 35 حزباً صغيراً يتفرعون من المكونات الأساسية للمجتمع الكردي ما بين سورية والعراق.
وازداد الوضع الكردي تعقيداً منذ ساعات، حين طالب زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا منذ العام 1999، حلّ "حزب العمال الكردستاني" وأن على كافة الأكراد إلقاء السلاح.
وأتى بيان أوجلان من داخل سجنه الحصين في جزيرة مارالي التركية بعد زيارة وفد من "حزب الديموقراطية والمساواة الشعبية" الموالي للأكراد في تركيا له في سجنه، لكن "قسد" سارعت في الردّ على بيان أوجلان، أن بيانه يعني "حزب العمال الكردستاني" ولا يعني أكراد سوريا.
وبصرف النظر عن مدى تأثير بيان عبد الله أوجلان كأب روحي لحزب العمال الكردستاني المُغيَّب عن صناعة القرار الكردي منذ أكثر من ربع قرن، فهو فشل عام 2013 في جعل الأكراد داخل تركيا يتخلُّون عن سلاحهم، وعادت المعارك بين هذا الحزب وبين الجيش التركي عام 2015، وتمسك الأكراد في حقوقهم بإقامة دولة كردية.
وبصرف النظر أيضاً عن مقررات المؤتمر الوطني السوري، التي تنادي بوحدة الأراضي السورية وضمان العدالة الانتقالية، والمطالبة السلمية بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي السورية المحتلة حديثاً، فإن هذا المؤتمر قد يبدو شبيهاً بالمؤتمرات اللبنانية، منذ لوزان وجنيف حتى الطائف والدوحة، مع وجود فارق واحد، أن "سورية الشرع" سائرة نحو التقسيم، مع جائزة ترضية لتركيا في ما يمكن تسميتها "ولاية حلب" في حال ولادة "الدولة الكردية"، أما "الدولة الدرزية" فهي باتت للأسف أمراً واقعاً لضمان أمن الكيان الصهيوني من جهة الجولان، وما على العلويين في الساحل السوري سوى انتظار حكم شبه ذاتي، أما الأقليات، فَلَهُم أن يتعايشوا ضمن الدويلات المستحدثة ما لم يطرأ تغيير على الواقع الحالي.