أقلام الثبات
قد يُعاني بعض العرب من ضعف البصيرة، لكنهم على الأقل لا يُعانون جميعاً من ضعف البصر، لرؤية مليون ونصف مُشيِّع حضروا رغم كل الظروف، وتحت بصر الطيران الصهيوني، ليُبايعوا نهج مَن هو بحجم أمَّة.
ليست المفاجأة في الحضور من نحو ثمانين دولة لتشييع سماحة السيد حسن نصرالله، بل في اللبنانيين الذين تحدُّوا الطبيعة واستبقوا ما كانت تؤكد عليه كافة مراصد الأحوال الجوية، عن الطقس الماطر والمُثلِج المتوقع يوم الأحد، وهرولوا إلى بيروت مساء السبت، رغم عدم وجود بيوت تأوي الكثيرين منهم، وباتوا ليلتهم في السيارات وعلى الطرقات، وكانوا قبل فجر الأحد على مداخل مدينة كميل شمعون الرياضية حيث ساحات التشييع، والمفاجأة كانت، أن الدنيا "شمَّست" للسيِّد يوم الأحد، ربما لأنه الظاهرة التي أبهَرت العالم مع كل طلعة شمس.
رسالة بيروت أرسلها لبنان مراراً إلى العرب والعالم، ليس فقط في حرب التحرير عام 2000، ولا في نصر تموز عام 2006، ولا في ردع العدو الصهيوني عامي 2024 و2025، بل أيضاً في العام 2002، عندما عُقِدَت القِمَّة العربية في بيروت، وكانت إحدى القمم الأكثر أهمية في تاريخ الجامعة العربية، حيث تبنَّت يومذاك مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز بالنيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، بشأن عدم تطبيع العلاقات "الإسرائيلية" - العربية قبل الانسحاب الصهيوني إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وقيام الدولة الفلسطينية.
"قِمَّة بيروت" لطالما تغنَّى بها العرب ولا يزالون، لا بل باتت عبارة "مقررات قِمَّة بيروت" خلاصة كلامهم عند الحديث عن الصراع العربي - "الإسرائيلي" وحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، ويتمّ حالياً التداول بمقررات هذه القِمَّة التاريخية، عشية القِمَّة العربية المُزمع عقدها في القاهرة في الرابع من آذار / مارس المقبل.
وبكل بساطة، كانت زيارة الملك الأردني عبد الله بن الحسين لواشنطن، بدعوة أو باستدعاء من ترامب، بالون اختبار لما لا تستطيع أميركا فرضه على ما تسمِّيه "الشرق الأوسط الجديد"، وكانت لترامب إملاءاته في مؤتمر صحفي فاجأ فيه الملك عبد الله قبل عقد جلسة المباحثات معه، وجاء الرد الأردني تكراراً للموقف العربي، برفض تهجير أبناء قطاع غزة، وأن الموقف الأردني بالتضامن مع مصر سوف يصدر عن الدول العربية مجتمعة، والقائل بإعادة إعمار قطاع غزة دون الحاجة لانتقال سكانه إلى أي مكان آخر، لا مؤقت ولا دائم.
وقد جرى استحضار مقررات قِمَّة بيروت منذ عدة أسابيع، أولاً للردّّ على صفقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القاضية بتهجير فلسطينيي قطاع غزة الى مصر والأردن، بذريعة إعادة إعمار غزة حيناً، وإراحتهم من العيش في منطقة تبدو إسكانياً كما الجحيم أحياناً، وثانياً لأن ترامب هدد فعلاً بفتح أبواب الجحيم على الشرق الأوسط، وحدد التاريخ والساعة لإطلاق كافة رهائن قطاع غزة، لكن لم يهتزّ جفن للمقاومة الفلسطينية عند هذا التهديد الارتجالي الأرعن، وأبقت على سردية إطلاق الأسرى ضمن سياق اتفاق وقف النار مع العدو الصهيوني.
هناك لدى بعض العرب نوعٌ من الرهبة، شبيهة بما يمكن تسميتها "أميريكانو فوبيا"، وأن أميركا قادرة أن تحقق ما ترسم من خرائط في الغرف السوداء داخل ذلك البيت الأبيض ولكن، أميركا ملعونة منذ جعلت من دول أميركا الجنوبية "جمهوريات موز" على قاعدة نعطيكم شتول الموز ونشتري الإنتاج منكم وترضخون لسياساتنا، لكن أميركا حصدت خلال عشرات السنوات خيبات شتولها، من كوبا إلى فنزويلا، ومن فيتنام الى كوريا الشمالية، ومن العراق الى أفغانستان وسوريا، وحتى من بعض الدول الأوروبية التي باتت ترفض أحادية حكم العالم، وآن أوان العرب أن يتعلموا على الأقل من الأقربين، أن قطاع غزة بات سكانه في خِيَم من النايلون أقاموها على جثث الشهداء والمفقودين، ويرفضون الرضوخ لألاعيب أميركا وأكاذيبها وغطرستها.
وبالفعل حصل لقاء عربي لسبع دول عربية في الرياض، وتم الإعلان أنه ليس اجتماع قِمَّة رسمي، بل هو يحمل صفة الاجتماع التشاوري، وضمَّ كلاً من السعودية ومصر والإمارات والكويت والبحرين وقطر والأردن، وأعلن المؤتمرون أن نتائج هذا الاجتماع التشاوري، ستُعلَن ضمن بيان القمة العربية التي ستُعقد في القاهرة في 4 آذار/ مارس المقبل.
ولا بأس لو جاءت مقررات قمة القاهرة كلامية كما كل القمم العربية ولكن، تهديدات ترامب في تهجير الفلسطينيين من غزة هي أيضاً كلامية، لأنه أعجز من أن يقتلع خيمة نايلون من القطاع لتهجير المؤتوين فيها، ونرضى أن تكون قمة القاهرة كما قمة بيروت، والتأكيد خلالها على رفض تهجير الفلسطينيين من القطاع والضفة الغربية، والى إقامة دولة فلسطينية قبل بحث أي تطبيع مع العدو الصهيوني.
وجه الشبه بين قِمَّة بيروت 2002، وقِمَّة القاهرة 2025، أن لجم التطبيع مع العدو الصهيوني كان فكرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله في بيروت، وفكرة لجم هذا التطبيع هي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في القاهرة، مع وجود فارق كبير في ظروف عقد القِمَّتين، أن قِمَّة القاهرة ستنعقد في ظل قِمَّة المكابرة الأميركية الجوفاء، وقِمَُة الإجرام الصهيوني الذي يحلم بتحقيق أمن "إسرائيل"، ولن تعرف "إسرائيل" الأمن قبل شعور الشعب الفلسطيني بالأمان ضمن دولة مستقلة تُطالب بها أكثر من 150 دولة عبر العالم، وستتحقق بإذن الله غصباً عن هذا الكيان المغتصِب...