أقلام الثبات
وصول الأمير السعودي يزيد بن فرحان الى بيروت منذ أيام، متأبطاً الملف اللبناني، أزال اللغط في "سوق عكاظ" اللبنانية حول الدور السعودي، والرجل لم يحمل في يمناه "عصا المطاوع" على أحد، لكن يسراه تحمل "جزرة" الدعم المالي لبلدٍ عاجزٍ مُفلس.
لا تجد "السين" السعودية نفسها مطلوبة فقط في لبنان، بل أيضاً "السين" السورية دخلت غرفة العناية الفائقة، وتستوجب من السعودية اهتماماً لا تستطيعه جامعة الدول العربية مجتمعةً، وإذا كانت المملكة تسعى إلى شرق أوسط يشبه أوروبا الجديدة، كما يراه الأمير محمد بن سلمان، ضمن حلمه لتحقيق الأمن الشامل في المنطقة ورؤية 2030، فإن المملكة قادمة أيضاً على استحقاق 2034؛ موعد استضافتها لكأس العالم لكرة القدم، وهي إن كانت تسعى لإرساء السلام، فلها أيضاً شروطها لتحقيق الأمن القومي الإقليمي، وما حصل في سورية بعد غزة ولبنان عبء جديد عليها وعلى أي طرف يسعى لصناعة "السلام".
منذ آذار/مارس عام 2023، بدت ملامح الشرق الأوسط الذي ترغبه السعودية من خلال عقد الصلح مع إيران بوساطة صينية، الصلح المبني على تفادي وقوع المزيد من الحروب البينية الإقليمية التي تستدرج دولاً كبرى، لكن عملية طوفان الأقصى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والعدوان على لبنان في أيلول/ سبتمبر 2024، ثم الانقلاب التاريخي في سورية مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2024، أحداث كبرى غيَّرت الكثير من روزنامات موضوعة سلفاً، واستوجبت إعادة تقييم غير مسبوقة في الحسابات.
المملكة على قرارها بعدم التطبيع مع "إسرائيل" قبل نيل الفلسطينيين حقوقهم بدولة، لكن الشرق الأوسط الذي تبني عليه المملكة مستقبلها، مغاير للشرق الأوسط الصهيوني، مع ما يلوح في الأفق السوري من أطماع تركية بشمال سورية، وأطماع "إسرائيلية" بجنوبها، بصرف النظر إذا كان الأكراد هم ذريعة تركيا، والدروز هم ذريعة "إسرائيل"، ما دامت الإدارة الجديدة في سورية قد شرَّعت للاحتلال محيط الجولان حتى حدود دمشق، فيما القوات الأميركية تعزز وجودها لحماية "الدولة الكردية".
في هذه الأجواء الرمادية، يستطيع الفرقاء اللبنانيون معارضة التوجُّه السعودي في دعم وصول قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، لكنهم أعجز من أن يقولوا "لا" مطلقة للمملكة، في ما تراه مناسباً لموقع لبنان ضمن المعادلة الإقليمية الجديدة، ومشكلة قائد الجيش مع غير الراغبين به، تكمن في قوته بإدارة المؤسسة العسكرية خاصة بعد العام 2019، والنأي بها عن سياسات صبيان السياسة و"حركات" الميليشيات، وهو مكروه من بعضهم لهذا السبب، لا بل تزداد العين الغاضبة عليه كلما ازداد دور المؤسسة العسكرية، خصوصاً بعد إقرار وقف النار مع العدو "الإسرائيلي" وانتشار الجيش جنوب الليطاني، وبعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وتوجه الجيش الى الجبهتين الشرقية والشمالية.
ليس العماد جوزف عون مَن يصنع الأحداث، بل هو يتحرك بردَّات فعل طبيعية لمواجهة المستجدات، ولعل قدرة الضبط لديه لشؤون المؤسسة العسكرية، وسط كل تداعيات الوضع الاقتصادي على العسكري والمدني في لبنان، هي من أبرز سمات سيرته الذاتية، دون التقليل من قدر السِّيَر الذاتية للمرشحين الآخرين، باستثناء مَن سيرته الذاتية مكتوبة بالدمّ.
قرار المملكة بعدم التعاطي مع اللبنانيين بصفاتهم الفئوية والحزبية عمره أكثر من سنة، لأنها اختبرتهم جميعاً، وهي لا تحتاج لأزلام في السياسة كي تعود إلى الساحة اللبنانية، لأنها لم تغادرها أصلاً، ولديها شارعها الموالي لسياساتها ودورها الرعائي، وهي فقط تتطلع إلى فريق سياسي حكومي رسمي بعيد عن الفساد، وهي الأعلم بالفاسدين وهواة الاستزلام مقابل الانتفاع الشخصي منها.
وانتخاب رئيس الجمهورية في لبنان هو تفصيل لدى المملكة السعودية، وصلاحياته محدودة وفق "الطائف" الذي قامت برعايته على أرضها، لكن هذا لا يعني أنها ترضى برئيس لا تنسجم مع توجهاته الوطنية، تماماً كما منصب رئيس الحكومة الذي تريده جامعاً للبنانيين وليس صدامياً، وهنا لا بد من أخذ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مثالاً مقبولاً، لأن الرجل بفضل دبلوماسيته الهادئة، نجح في الداخل والخارج ضمن الممكن، وخاض أصعب معمودية سياسية، شبيهة بالمعمودية العسكرية التي خاضها وما زال العماد جوزف عون.
وليس الخطر على لبنان في التاسع من كانون الثاني الجاري في فشل انتخاب شخصية جامعة قوية صارمة مثل العماد جوزف عون، أو أية شخصية أخرى غير صدامية مع أحد، بل الخطر هو في ألاعيب صبيان السياسة من النواب، ومحاولات الربع ساعة الأخير لتطيير النصاب وتأجيل جلسة الانتخاب، وهنا الخطر كل الخطر على بلد محاط بالمخاطر، على الجبهات الجنوبية والشرقية والشمالية، مع غليان في بعض المناطق على خلفية ما حصل ويحصل في سورية، وعندها لا لوم على المملكة ولا على سواها في عدم إنقاذ غريق غير قابل للإنقاذ والتعويم.