أقلام الثبات
عاش العرب فترة طويلة في دائرة الانهزام الثقافي والنفسي، والانكسار المعنوي أمام العدو "الاسرائيلي"، وصاروا أسرى الخوف من التفوق العسكري "الإسرائيلي"، واستسلموا لفكرة "الجيش الذي لا يقهر" وأنه لا يمكن استعادة الحقوق والأرض المحتلة إلا بالتفاوض مع العدو والتنازل عن جزء منها، وفتحوا بلادهم امام التوغل "الإسرائيلي" الاقتصادي والأمني والثقافي، واستطاع العدو زرع مفاهيمه في الثقافة العامة للجمهور العربي والإسلامي بأن التحالف معه، والتسليم بوجوده يؤمّن الرضا الأميركي، ويسمح ببقاء الملوك والأمراء والرؤساء بالحكم، ويؤمن للشعوب المساعدات الغذائية التي لو عملت هذه الشعوب وحكوماتها لاستغلال مواردها، لحصدت اضعاف تلك المساعدات الهزيلة التي يتم دفع ثمنها سياسياً وثقافياً.
انهزمت الأمة ثقافياً وعقائدياً وسلوكياً أمام الثقافة الغربية السلبية والسيئة، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى صار كل شيء غربي من أزياء ولباس او افكار تعتبر مرجعية فكرية لا يمكن النقاش فيها، وانها تتقدم على الأفكار والعقائد في منطقتنا، سواء على المستوى الاسلامي المسيحي او الثقافي العام؛ في الأدب والشعر والفلسفة والعلوم، وتحوّلنا الى مستهلكين على المستوى الثقافي والسلوكي في تبعية عمياء، حتى صارت "أزياء" الألبسة الممزّقة ومعايير الجمال الحديثة للنساء وفق النمط الغربي، مهما كانت مبتذلة وغير مألوفة هي المعيار الذي يجب ان تتّبعه النساء، سواء كنّ ملتزمات ويلبسن "الحجاب" او ملتزمات بدون حجاب، ولحق بهنّ الرجال ايضاً، واستوردت مجتمعاتنا الثقافة ذات النوعية السيئة، دون التفتيش عن الثقافة ذو الجودة عالية.
تم إعدام الثقافة في مجتمعاتنا، وحاولت الأنظمة والأحزاب وبعض والمؤسسات الدينية تحويل الأتباع والمواطنين الى "روبوتات بشرية" أوهمتها وفرضت عليها وجوب عدم التفكير، لأن الحكومة تفكّر، والقائد والزعيم هو الذي يفكر، والمرجع الديني يفكّر، وقيادة التنظيم الحزبي تفكّر، وتحوّل المثقفون والناس الى عبيد للحكومات والأحزاب والزعامات؛ إكراها او طوعاً، وانتشرت ظاهرة تأجير العقول او اقفالها او تلقيحها، وتم حصار او تكفير وتخوين من بقي حرّاً خارج السجن الكبير.
تعاني الأمّة من فراغ وتصحّر ثقافي، ولا يمكن مواجهة الغزاة والمحتلين بالرصاص فقط، فالرصاص يمكن ان يحمي الكلمة والفكر والعقيدة، لكنه لا يمكن ان يكون مستداماً، ويمكن للمحتل ان يبقى في أرضك او يسجنك، لكنه الى زوال، مهما طالت مدة احتلاله التي تحددّها ثقافتك، فإذا كانت ثقافة الناس ترتبط بالكرامة والعزة والحرية فإنها ستنتج مقاومين يواجهون في الميدان ويقصّرون عمر المحتل ويحرّرون أرضهم، أما اذا كانت ثقافة الهزيمة والاستسلام والعيش كيفما كان، بالذل والاستعباد، فسيبقى الاحتلال فترة أطول، وربما يغيّر ثقافتك لتصبح مُستجدياً لبقائه، بدل ان تكون مقاوماً لاحتلاله!
لقد قام المقاومون ولا زالوا بواجبهم في الميدان، واستشهد بعضهم، وسجّلوا أساطير في المقاومة والصمود، وأنهكوا المحتل، لكن هناك قصور وتقصير على جبهة المقاومة الثقافية، حيث يصمت المثقفون طوعاً او اكراهاً وخوفاً، ويغيبون عن مقاومة المشروع الثقافي الصهيوني والأمريكي والغربي والتكفيري، مما يجعل المقاومين الميدانيين مكشوفي الظهر، وينقصهم تبرير مقاومتهم وأسبابها وموجباتها او تأريخها، وتتعرّض للتزوير وتسخيف الانتصارات والتضحيات، وحتى لا يتحوّل المقاوم إرهابياً في الاعلام والرواية وحكايات الناس.
إننا ندعو لقيام "جبهة مقاومة ثقافية" لا تنحصر بطائفة او حزب او بلد، بل الى جبهة مقاومة ثقافية شاملة على مستوى الأمة، لمقاومة الثقافة الاستعمارية، وتعميم ثقافة المقاومة وعدم الانهزام، فربما نخسر معركة في الميدان، لكن علينا الا نخسر معركة الثقافة والحضارة التي تُبقي شعلة المقاومة وعدم الاستسلام قائمة، حتى يأتي الجيل الذي يستطيع الانتصار، والأهم ان نجدّد عدم قبولنا بالاحتلال "الاسرائيلي" ورفض الاعتراف بدولة "إسرائيل" كأمر واقع، او بسبب الهزيمة والضعف لا نعترف بها حتى يأتي الجيل الذي يحقق العدالة وتحرير الأرض، وعلينا ان لا نوقع صكوك التنازل والاستسلام..
كن مقاوماً ثقافياً.. وهذا أضعف الإيمان.
لتأسيس جبهة مقاومة ثقافية.. لمواجهة الانهزام الثقافي ــ د. نسيب حطيط
الثلاثاء 07 كانون الثاني , 2025 11:19 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مقالات وأخبار مرتبطة