الثبات ـ لبنان
«لو كان عندي فرس/ لضلّ عالعالي/ بس نْدَهيني/ بِنزل على خيالي/ يا بنت راعي الغنم/ هالموت مقابيلي/ ردّوا معي البواب/ جايي هوا شمالي/ في ناس
قالوا قِتِل/ في ناس/ قالوا مات/ في ناس /قالوا فتح عتمة خيالو/ وفات»: إنها لغة الشاعر اللبناني طلال حيدر (1937) التي لا تشبه إلا نفسها. لغة تطلع مباشرة من الحياة ومرجلها الحار وتجعلنا نتقلّب على الجمر، فلا هو شعر يطلع من ذاكرة ثقافية أو يوافق تصانيف العرب ومعاييرهم واصطفاف نقادهم في خنادق محصّنة بين الكلاسيكية والتفعيلة وقصيدة النثر، بل لكأنّ هذه اللغة بعاميّتها وسلاستها أشبه بسهل البقاع المنبسط كالكف تحت الجبال المكللة بالثلوج والمواويل الريفية... السهل الذي دائماً ما ألهم صاحب «آن الأوان» (1991) بقصائد مقدّر لها أن تصلب على الشفاه، أو تستقرّ في الجهاز العصبي لقارئها، أو في منطقة وسطى بين الأذن والحنجرة والقلب، فيصنّف هذا الشعر عندها بأنه ذلك الذي يترك رعشة في القلب وغصّة في الحلق، ويلسع الحواس والجوارح وقد تلاقت أطرافها.
شعر طلال حيدر مستنفر، مستفز، موشّح بانسياب الماء في السهل، وشلالات النور المنسكبة فوق قلعة بعلبك التي شاهد أهلوها بدهشة تشوبها المحبة أستاذَ اللغة الفرنسية المتخّصص في الفلسفة الذي تابع تعليمه في جامعة السوربون يرقص بين حجارتها رقصته الغجرية... بعلبك التي يقول في آخر أحاديثه الصحافية «إجت لعندي وحكتني بالمنام وبالصحو، قالتلي وينك؟ قلتلها انطريني، إذا قمت قبل المية رايح سلم عليكي». فكأننا نتعرّف في رقصة «زوربا البعلبكي» للمرة الأولى إلى الوردة والريح والغزلان السارحة بين المحبين، وخطى من يغيبون خلف الثلج والنسيان يقفلون باب الغابة وأبراج الحَمام.
الابن السادس للسكّاف البعلبكي الذي باع حصّته من الأراضي في سبيل تعليم أولاده، درس في مدرسة المطران بعدما انتقل وعائلته إلى مدينة طرابلس في الشمال اللبناني سنة 1948. كتب قصيدته الأولى بالعامية المحكية بعنوان «فخّار» وهو في عمر السابعة عشر، وأمضى ردحاً من حياته متنقلاً بين إيطاليا في بيروت والخليج وقريته «بدنايل» في البقاع اللبناني، وعمل في منابر صحافية عدة مثل ملحق «النهار العربي والدولي» و«الموقف العربي». خبِرَ كذلك تجربة المسرح في بيروت في «مرجان وياقوت» مع نضال الأشقر وروجيه عساف، و«الفرمان» مع ناديا تويني، ومسرحية «فرسان القمر» مع فرقة «كركلا». قد يكون صاحب «بياع الزمان» (1998) و«سرّ الزمان» (2009) مقلّاً في طباعة دواوينه، إلا أنّ أشعاره المغنّاة بصوت فيروز (وحدن وراعي القصب) وماجدة الرومي وأميمة الخليل (لبسوا الكفافي) ومرسيل خليفة (ركوة عرب، قومي طلعي عالبال، سحر البن) وغادة غانم (ريحة شتي) أشبه بالذهب النادر المصفّى يصوغه «جوهرجي» الكلام.
إذ كما يقول الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج «شعر طلال حيدر أغنية كيفما جاء. إغراء لا تعرف شيطانه من ملاكه. انطباعية يتداخل فيها الحدس والذكاء ولوعة لا تتوقف. منتهى كرم الشاعر أن يعتبر جميع الناس شعراء. شعر طلال حيدر يخاطبنا كإخوة. من الصعب كتابة المحكيّ دون مبالغات. ومن الصعب كتابة الحنين دون أن يظهر على الصيغ شيء من التكلّف، إلا على يد الصائغ الماهر».
الشاعر المتوقد بالحياة الذي تكرّمه وزارة الإعلام اللبنانية بعد غد الإثنين في مسرح «كركلا» (حرش ثابت ــ تقديم المخرج والممثل رفعت طربيه) بكلمات لوزير الإعلام اللبناني زياد المكاري والشاعر شوقي بزيع، والفنان مرسيل خليفة وغيرهم من محبيه، لم ينسَ فلسطين يوماً. وإذا كان صوت المحبين «متل مصر المرا وبعلبك الرجّال»، فإن فلسطين ستبقى كتاب الحكايا والوشم على الكفّين و«نور يلي ضاعوا بهالعتم»: «وجهك يا فلسطين قزاز/خاتم دهب وعلية وصندوق جهاز/وجهك سرقة البساتين/ وجهك سجر النوم اللي قبالي وجهك هالباب العالي/وجهك رعيان/وإنت كتاب الحكايا وملك الزمان/إنتي الوشم عا إيدين العرب، النَوَر اللي ضاعوا بهالعتم».
تكريم طلال حيدر: بعد غد الإثنين (س: 16:00) ـــ مسرح «كركلا» (حرش تابت) ـ للاستعلام: 76/880388