أقلام الثبات
في مشهديتين متزامنتين منذ أيام، ظهر وفد من حاخامات الصهاينة يجولون في جنوبي سورية، حاملين خرائط ووثائق، ويدَّعون أن الأراضي التي احتلها العدو "الإسرائيلي" مؤخراً بين القنيطرة وسفح جبل الشيخ، هي جزء من "إسرائيل الكبرى".
الوفد الثاني، كان لرجال دين مسيحيين، يزورون "الشيخ أبو خالد" من "هيئة تحرير الشام" في بلدة "السقيلبية"، يطلبون الإذن منه لإقامة شعائر ميلاد السيد المسيح، ويحددون له الساحة التي اعتادوا سنوياً الاحتفال فيها، وحصلوا منه على إجابة "لا مانع".
قد تكون المشهدية الأولى التي ترافقت مع الكثير من رسائل المُهادنة من "هيئة تحرير الشام" للعدو الصهيوني، فيها الكثير من الإيحاءات التي لا تبشِّر بالخير، حول إمكانية قيام دولة ذات سيادة في سورية، سيما أن الجيش الصهيوني يُمعن على مدار الساعة في تدمير كامل قدرات الجيش السوري، وسط الأيادي المرفوعة في ميادين دمشق وسائر المدن السورية انتصاراً لإسقاط النظام السابق، وليس استنكاراً لجرائم العدو في قضمه للمزيد من الأرض السورية في عملية "ضم وفرز" وقحة على أيدي حاخامات.
المشهدية الثانية لطلب إذن إحياء احتفالية عيد الميلاد، لا تحمل بشائر استقرار للأقليات في سورية، والخطاب المُعلن من أحمد الشرع حول صون حقوق الأقليات، تُناقضه الممارسات المتشددة سواء من أقرانه في مدرسة جبهة النصرة، أو من الفصائل التي تحالفت معه لإسقاط الأسد، مع دعوات للتشدد تُذاع عبر المكبرات في الميادين، والتي تشي بأن هناك ميولاً لتطبيق "الشريعة" ليس لدواعٍ دينية، بل لكيدية سياسية؛ بعد نصف قرن من الحكم العلوي والتوجهات العلمانية.
النقطة الأهم المماثلة للانقلاب على الأسد، هي في انقلاب أحمد الشرع على نفسه، وفي خلعه العمامة الدينية وارتداء بذلة "زيلنسكي"، والشرع الطالع من المناهج الشرعية لمدرسة "الجولاني"، لن يضمن خضوع الفصائل المتحالفة معه في استدارته، ولا هو ضامن لوحدة الأرض السورية مع بروز مسودة خارطة لثلاث "سوريات" على الأقل بثلاث دويلات: دولة الأكراد في الشمال الشرقي، والدولة السنية في الوسط، والدولة الدرزية في الجنوب.
وفيما تتمدد سلطة "هيئة تحرير الشام" لتشمل الساحل السوري ضمن الدولة السنية، فإن العلويين سيكونون من "أهل الذمة"، شأنهم شأن المسيحيين، لأن مطالب الفريقين الآن هي أدنى من الحقوق الدنيا بالمواطنة، ولأن "قيادة أحمد الشرع" ستجد نفسها منشغلة بكيفية ترسيم دولة كردية قد تستجلب اجتياحاً تركياً لشمال سورية بذريعة إقامة منطقة عازلة في المنطقة الشمالية الغربية، التي يسيطر عليها الآن "الجيش الوطني" المدعوم من الأتراك.
في الجنوب، حيث ترتسم الدولة الدرزية في القنيطرة والسويداء بمحاذاة الجولان الدرزي المحتل مع دعم صهيوني سافر، فإن قيادة الشرع أمام خيارين لا ثالث لهما: قيام دولة مذهبية درزية على نسق الحكم الذاتي الكردي في العراق، والمرتقب قيامه أيضاً في شمال سورية، أو اجتياح "إسرائيلي" قد يصل إلى ريف دمشق بذريعة توسعة المنطقة العازلة التي تحمي أمن "إسرائيل".
هذا هو واقع سورية بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، دون الخوض حالياً في أسرار انهيار النظام والجيش، حيث لا المهاجمين أطلقوا النار ولا المدافعين دافعوا، مع رفع راية بيضاء فوق كل إطلالة لأحمد الشرع حتى في توجيه رسائله للعدو الصهيوني، وإعلان التزامه بالهدنة الموقعة مع "إسرائيل" عام 1974، فيما الجيش "الإسرائيلي" يُمعن في تدمير مقدرات الجيش السوري، وهنا تكمن المعضلة الكبرى لزعيم "الدولة السنية" أحمد الشرع، ومدى تقبُّل الشارع السني السوري الذي يتوق للعودة إلى عمقه العربي، فيما الشرع يكاد يرفع راية الحياد الى حدود الاستسلام لإرادة الغربيين المتهافتين على سورية في استغلالٍ لكبوتها الاقتصادية نتيجة الحصار الأميركي الغربي، وإعلانها غير المُعلن حتى الآن، عن عجزها أمام التركي في الشمال والصهيوني في الجنوب، والخضوع لإرادة مَن يحمل رغيف خبز للشعب السوري، على غرار مبادرة الرئيس الأوكراني زيلنسكي، الذي أعلن عن بدء تموين بلاده لسورية بالقمح والطحين، فيما سورية تنتظرها فوضى سياسية وأمنية، أين منها غوغائية التدافع في طوابير الأفران للحصول على قضمة من الرغيف السوري.