أقلام الثبات
قبل أن يغيب صوت هدير الطائرات الحربية "الإسرائيلية" وازيز المسيرات من أجواء لبنان، وقبل أن تصمت أصوات ارتجاجات قصفها الإجرامي على بيوت المدنيين، سارع السفير السعودي في لبنان وليد البخاري إلى إطلاق وعود شهد اللبنانيون والعرب خلال العقود الماضية على أنها وعود عرقوبية؛ لم تتحقق سابقا، ومن الغباء الركون إليها، مادام المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
هي الحرب الناعمة انطلقت؛ وهي أصلا لم تتوقف؛ بالتوازي مع حرب العدو "الإسرائيلي" على البشر والحجر في لبنان. لكن استغلال جراح الناس واستغباء ذاكرتها الفردية والجمعية أمران لا يمكن تجاهلهما، بل الواجب التحذير منهما وتفنيدهما.
والواقع، أن أعداء المقاومة يصابون بالجنون كلما شاهدوا جمهورها ومؤيديها شامخين صابرين، ومعتزين بصمودهم وبشهدائهم، ومتمسكين بخيارهم؛ ألا يخضعوا ولا يستسلموا؛ ولا يقبلوا الانضمام إلى طابور الزواحف من الأنظمة العربية المطبّعة مع العدو "الإسرائيلي"، بل هم يزدادون تمسكاً بمقاومتهم وبسلاحها كلما زادت آلامهم وجراحهم، فهذا السلاح هو الذي يحمي آخر ما يريد الأعداء انتزاعه منهم، وهو الكرامة بعدما استولت أنظمة العهر والفساد والتبعية على السلطة والمال، وهذا السلاح هو الذي أصاب العدو خلال الشهرين الماضيين، بما لم تصبه به كل جيوش دول المواجهة العربية؛ ومعها دول المساندة، خلال عشرات السنين من الصراع العربي -"الإسرائيلي"؛ وفي كل الحروب ضد العدو، التي خسرتها كلها الأنظمة العربية، نتيجة خيانة الحكام وجبنهم وخضوعهم للإملاءات والتهديدات الأميركية والغربية، التي تنذرهم بوقف حمايتها لبقائهم في مناصبهم وكراسي حكمهم، إذا ما أوقعوا ضرراً جدياً بالكيان الصهيوني، الذي اثبتت الأحداث، خصوصاً حرب ما بعد طوفان الأقصى، أن هذا الكيان لا يستطيع العيش ساعة واحدة من دون حماية أميركا والغرب له. ومن دون تواطؤ الحكام العرب مع تلك الحماية؛ وتمويل الأثرياء منهم للدعم الأميركي والغربي، الذي لا ينقطع عن ذلك الكيان.
قال البخاري إن المملكة السعودية ستكون أول العائدين الاستثمار في لبنان، في حال حصول وقف لإطلاق النار، وإن هذه الاستثمارات ستتدفق على لبنان إذا انتخب رئيس وسار على سكة الإصلاح المطلوبة ونسج أفضل العلاقات مع المحيط العربي.
ويذكر اللبنانيون والعرب أن تلك الوعود أعطيت لمصر، في مرحلة ما قبل "كمب ديفيد"، حيث شهدت طفرة في الصحافة الممولة من المملكة السعودية، التي شرّعت صفحاتها لنشر مخططات لمشاريع تمويلية واستثمارية، سعودية وخليجية وغربية، قيل إنها ستحول صحراء سيناء إلى جنة؛ وتحوّل معها مصر إلى بلد غني، يكفي شعبه؛ ولا تحتاج اجياله الشابة بعدها، إلى الهجرة إلى الخارج، مثل اللبنانيين، بحثاً عن عمل بسيط أو وضيع لتأمين لقمة عيش لا توفرها لهم حكوماتهم.
وتشهد حال مصر منذ ذلك الوقت، أن تلك الوعود كانت خادعة وكاذبة، هدفت فقط إلى توريط المصريين وتشجيعهم على القبول بإقامة "سلام" مع المحتلين الصهاينة، خسرت فيه مصر دورها العربي والأفريقي؛ ومعه خسرت شعورها بالعزة والقوة والكرامة، مما جعلها ضعيفة وعاجزة عن اتخاذ موقف يحمي شريان حياتها، نهر النيل، الذي أقامت عليه أثيوبيا سدوداً ومشاريع مائية، تهدد بتعطيش مصر؛ وتنذر بطوفانات تجتاح أقساماً واسعة من السودان، إذا تعرضت تلك السدود لأي حاث. ناهيك عن الموقف المصري المخزي في التفرج على إبادة الفلسطينيين في غزة؛ وكأن مصر لا علاقة لها بالعرب والمسلمين.
وما يقال عن الوعود العرقوبية، التي أعطيت لمصر، التي غرقت في الديون منذ ذلك الوقت، رغم بيعها لمصانع القطاع العام، قيل الكلام نفسه للأردن، عندما توجه الحكم فيه لتوقيع اتفاقية وادي عربة، التي لم تجلب للأردنيين غير الشعور بالذل والمهانة، ليس فقط لموقف حكومتهم المتواطئ مع حرب الإبادة "الإسرائيلية" في غزة والضفة الغربية، بل وكذلك، لأن وعود المال والاستثمار العربي، تدفقت إلى درجة يعاني فيها الأردنيون من العطش، لعجز حكومتهم عن تأمين مياه الشفة لهم.
وفي لبنان، يتجاهل مروجو الانبطاح أمام العدو وأمام وعود المال، أن لبنان غني وأن إفقاره يتم على أيدي حكامه اللصوص، المحميين من رعاة الكيان "الإسرائيلي" ومن مموليه العرب. كما أن حرب الإفقار التي شنت على اللبنانيين وسرقت فيها ودائعهم من قبل المصارف، كانت بقرار اميركي، لإيصال اللبنانيين إلى هذا الحال بما يسهل إخضاعهم.
وبالتوازي مع هذه الوعود الكاذبة، يواصل صهاينة الداخل اللبناني شماتتهم بما أصاب بيئة المقاومة من قتل للأنفس وتدمير للبيوت؛ ويرون ذلك فرصة للتخلص من المقاومة وسلاحها، في وقت بيّن العدوان "الإسرائيلي" وما بعده، أن الجيش اللبناني عاجز عن الدفاع عن نفسه وعن جنوده، في وجه العدوانية "الإسرائيلية"، حيث استشهد 45 من عناصره، من دون أن يطلق طلقة واحدة على العدو. كما أن المطالبين اليوم بوجود الدولة في لبنان، هم الذين سرقوا خزينتها وأقاموا دولة مزرعة يحكمها تحالف الفساد القائم منذ عشرات السنين، بين أصحاب المصارف ومالكي الوكالات الحصرية وزعماء الطوائف. وهم الذين قاتلوا جيشها وقتلوا جنوده وضباطه لإحلال أمنهم الذاتي الفئوي. لذا، فإن لبنان أمام خيارين وحيدين: أما الخضوع للعدوانية "الإسرائيلية" والدخول في طابور النظام الرسمي العربي، المتصهين والخاضع للإملاءات الأميركية و"الإسرائيلية"، أو التمسك بالمقاومة وتعزيزها قوة وسلاحاً وعديداً؛ وبالتالي رفض المقايضة بين وعود الرخاء الكاذبة؛ وبين الصمود والمقاومة ودفع ثمن الحفاظ على العزة والكرامة واحترام الذات.