أقلام الثبات
استفاق مَن نام من اللبنانيين ليل الثلاثاء - الأربعاء على "عجقة سير" غير مسبوقة عند الفجر، وسحورٍ من نوعٍ آخر، بنكهة التراب المُنتشي بقطرة مطر وقطرات من أحمر الشهادة، مع آخر طلقة من عملية "إفراغ المدفع" التي تسبق كل وقف إطلاق نار، وبدا أبناء الجنوب وكأنهم ناموا عند نهر الأولي، وأبناء بعلبك في ضهر البيدر، وأبناء الضاحية عند مداخلها، ما أثار دهشة وسائل إعلام العدو الصهيوني حول شعبٍ هو بأكمله مجنون أرض، حتى ولو افترش الأرض بلا سقف ولا جدران.
وكانت لنا "صبحية" بعد هذا السحور اللبناني الرائع، مع بعض وسائل الإعلام العبرية، ومنها صحيفة "إسرائيل هيوم"، التي تناولت اعتراض سكان المستوطنات الشمالية على مقترح عودتهم إليها، رغم الدعم الذي أبداه مسؤولون وضباط "إسرائيليون" لهذه العودة.
وفيما أعرب قائد "اللواء 769"، في الجيش الصهيوني العقيد "آفي مرتسيانو"، عن دعمه عودة المستوطنين إلى كريات شمونة والمستوطنات المجاورة المحاذية للحدود غير المكشوفة للنيران، رفض رؤساء السلطات المحلية ذلك من دون وجود ضمانات أمنية، وقال رئيس بلدية كريات شمونة "أفيحاي شتيرن" أنّ "التهديدات ما زالت قائمة في الشمال، لذا، ليس بالإمكان التفكير في العودة".
بدوره، اعترف "جاك نريا" مستشار سابق لرئيس وزراء "إسرائيل" بالهزيمة أمام حزب الله، وقال في إطلالة تلفزيونية: لقد اتفقنا مع لبنان على اتفاقٍ لا قيمة له، لأننا لم نتمكن من إعادة المستوطنين إلى منازلهم في الشمال، بينما يعود اللبنانيون إلى الجنوب". وأضاف "نريا" بحسرة:
"ما فعلناه غير عقلاني، لأنه كان من المفترض أن يتم إنشاء منطقة عازلة عسكرية وعارية من السلاح في جنوب لبنان وهو ما لم يُذكر في الاتفاق".
صحيفة "جيروزليم بوست" أفادت أن سياسيين ومحللين "إسرائيليين"، وجَّهوا انتقادات مختلفة للحكومة، معتبرين أن الاتفاق لم يمكّن سكان الشمال النازحين من العودة إلى الآن، باعتبار أن فريق التفاوض "الإسرائيلي" لم يطالب فعلياً بعودتهم، مع وجود شكوك ومخاوف أمنية بين النازحين من مستوطنات الشمال، على منازلهم القريبة من الحدود اللبنانية، وعلى مستقبلهم الغامض، ما دفع عضو الكنيست عن حزب الليكود "دان إيلوز" للتعبير عن مخاوفه بشدة من الاتفاق، والتحذير من كونه يعتمد على آليات مراقبة دولية ثبت أنها ضعيفة وغير فعالة في الماضي.
وقالت الصحيفة تعقيباً على ردود الفعل السلبية من مستوطني الشمال، إن انتقاداتهم، رغم أنها لاذعة، لكن لا يمكن أن تحجب حقيقة مفادها أن "إسرائيل" بحاجة إلى التحرُّك، فالوضع يتطلب توازناً دقيقاً بين الاحتياجات العسكرية الفورية والأهداف الاستراتيجية الأوسع، لكن سكان شمال "إسرائيل" يشعرون بأن هذه “الصفقة مألوفة للغاية”، بحكم شهادتهم على اتفاقيات مماثلة سابقة، كانت نتيجتها نمو وتمدد أكبر لحزب الله.
الخلاصة المبدئية التي فرضها حزب الله والمقاومة في لبنان، تتمثَّل في معجزات المواجهة البرية التي انتهت بقرار وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، مع حفظ حق الطرفين في الردّ عند أي انتهاك، وتسجيل انتصار لبناني في المفاوضات بفرض فرنسا ضمن هيئة المراقبة الدولية رغم رفض "إسرائيل" لها، ورفض لبنان وجود بريطانيا وألمانيا ضمن الهيئة، وكان له ما أراد.
ونكتفي بهذه الخلاصة إلى أربعة ملخصات تفادياً للإطالة:
أولاً: إذا كان هناك فرقاء لبنانيين يأخذون على المقاومة أنها ورّطت لبنان في هذه الحرب من أجل إسناد غزة، وأنها لم تنجح في الإسناد، فإن تاريخ لبنان مع العدو "الإسرائيلي" يشهد، أن هذا العدو لا يحتاج لذريعة كي يعتدي، ونجاح المقاومة في لبنان بإسناد غزة، تجيب عليه المقاومة الفلسطينية هناك، وكم خفف إشغال ألوية العدو على الجبهة الشمالية من ضغوط على المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية.
ثانياً: هدف نتانياهو من الحرب على لبنان، إعادة المستوطنين إلى الشمال، والقضاء على حزب الله، فعاد أهل لبنان إلى مدنهم وقراهم بعد ساعة من وقف إطلاق النار، ولم يعُد المستوطنون إلى الشمال الفلسطيني خوفاً ورعباً من حزب الله، الذي أثبت حتى الثواني الأخيرة التي سبقت وقف إطلاق النار، أنه ما زال يتمتع بكامل جهوزيته القتالية بكل الوسائل.
ثالثاً: لا بُد من تذكير بعض صهاينة الداخل من السياسيين والإعلاميين، أن مشهدية فجر الأربعاء، وهذه العودة المجنونة للنازحين المبتهجين بأرضهم وأرزاقهم رغم الدمار، تدحض هلوسات السخفاء، الذين يلعقون الأخبار من على أدراج عوكر ويعلكون بها، أن مليون وأربعمائة ألف شيعي سوف يتم ترحيلهم إلى العراق، ضمن مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وأن يتجرؤوا الآن ويسألوا مواطناً شيعياً واحداً يجلس على ركام منزله في الجنوب أو الضاحية، إذا كان يستبدل هذا الركام، بتأشيرة وإقامة ومنزل في أي بلدٍ آخر.
رابعاً وأخيراً: ملف المفاوضات حول تطبيق القرار 1701، تنتهي صيغته التطبيقية ببحث ترسيم الحدود البرية مع العدو "الإسرائيلي"، بما يعني إثارة النقاط الخلافية حول هذه الحدود لتسويتها، والمقاومة المنتشرة في شمال الليطاني جاهزة لدورها في هذا الشأن ضمن سياق المعادلة الثلاثية، فلا بحث في القرار 1559 قبل استعادة لبنان كامل حقوقه في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقرى السبع، وهذه المقاومة باقية ضمن استراتيجية دفاعية يسودها التفاهم مع الجيش اللبناني، وحزب الله باقٍ أقوى مما كان ضمن المعادلة السياسية، ومَن عاش في الشهرين الماضيين في هاجس حلم "لبنان ما بعد حزب الله"، عليه أن يستفيق من حلمه كي لا ينقلب الحلم إلى كابوس.