أقلام الثبات
لسنا بوارد الدخول في متاهات البحث، عمَّن عرقلوا تطبيق اتفاق الطائف من شرائح الطبقة السياسية في لبنان منذ العام 1989، ولا نحن بصدد ذكر مَن يهرولون الآن لتطبيقه، لأنهم هُم أنفسهم الداء والداء والداء، ولو كانوا قد تناولوا جرعة دواء من الطائف، وقبله من مؤتمريّ لوزان وجنيف، لما كان من وجوب للذهاب إلى الدوحة عام 2008 لاستيلاد رئيس للجمهورية، وعودتهم اليوم إلى المناداة بتطبيق الطائف، فيما لبنان على امتداد الخارطة تحت نار العدوان "الإسرائيلي"، فلأن لا "دار حضانة" عربية على استعداد لاستقبال "الزعماء" اللبنانيين، خصوصاً أن تصنيفهم سياسياً وديبلوماسياً في الخارج أنهم باتوا من "ذوي الاحتياجات الخاصة"، وتلزمهم حضانة متخصصة للعلاج من الإعاقة.
ولا حاجة بنا للعودة إلى الوراء سنوات لتأكيد إعاقة الطبقة السياسية في لبنان، بل نعود فقط ليومين سابقَين، عندما نجِد أن المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، المطلوب منه مناقشة مسودة اتفاق وقف إطلاق النار في المفاوضات غير المباشرة بين لبنان و"إسرائيل"، هو مُطالَب حصراً بلقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، لعدم وجود رئيس للجمهورية، وحتى الرئيس نبيه بري، يحاور هوكستين ليس بصفته رئيساً للمجلس النيابي، بل كونه المُكلَّف من طرف المقاومة بالتفاوض، وكل الزيارات التي قام بها هوكستين، ومن ضمنها الرابية ومعراب، بدا فيها وكأنه "طائف متنقِّل" للوقوف على خاطر سائر الأطراف، وهذا أكبر دليل على أن "حافلة الطائف" في لبنان وضعُها كما وضع "بوسطة عين الرمانة".
من المهازل التي أنتجها عدم تطبيق اتفاق الطائف، والفصل بين السلطات، أن هوكستين أو سواه من الديبلوماسيين الدوليين والإقليميين، يجد أنه لزاماً عليه إجراء "برمة عروس" على كل القوى السياسية ضمن نظام 6 و6 مكرر، وهذا بحد ذاته يقلل من هيبة الدولة، ولا يدعو أبداً للاغتباط، بحيث بدت زيارة هوكستين الأخيرة مادة للتنمُّر والتندُّر بين مناصري الشريحة الطائفية الواحدة، وتباهى مناصرو التيار الوطني الحر بزيارة هوكستين للرئيس ميشال عون في الرابية، فيما زايد عليهم "القواتيون" أنه أيضاً زار معراب، واستبقاه السيد سمير جعجع الى مأدبة غداء أو عشاء لا فرق!
وضمن نفس المسلسل من المهازل، أن خصوم المقاومة في لبنان يُعلنون استعجالهم لبحث الوضع السياسي اللبناني مع هوكستين لمرحلة ما بعد حزب الله، بمعنى أنهم باتوا يهلوسون بما يشبه (طائف +)؛ تماماً كما يهلوس "الإسرائيلي" بتطبيق القرار (1701 +)، لكن الميدان يحمل مفاجئات قد تلغي حتماً علامة (+) عن الطائف وعن القرار 1701، ويُنصح المراهنون بعدم الذهاب في خطأ التقدير أن وليمة في معراب لهوكستين قادرة أن تسبب له عسر هضم، وبالتالي عدم تركيز أن الذين يمشٍّطون لحاهم لتقرير مصير لبنان المقاوِم، لن يكون لبنان وليمة سائبة لهم، ولا يملكون من لوازم الوليمة الوطنية ما يجمع اللبنانيين حولها، وليس كل ما يُطرَب هوكستين لسماعه على ألحان عوكر، يُمكن أن يستسيغه اللبنانيون، وبالتالي، الرجل مهامه محددة بموضوع وقف إطلاق النار، لا أن يسمع ما لن يدخل آذان وعقول شركاء أساسيين في لبنان.
نحن نفهم أن الرئيس نجيب ميقاتي هو المعني الأول باستقبال هوكستين ومناقشة الورقة اللبنانية، والرئيس بري بصفته الطرف المفاوض عن المقاومة، والعماد جوزف عون معني بعرض جهوزية الجيش والإبلاغ عن حاجاته من العتاد لتنفيذ القرار 1701، لكن ما سوى ذلك هو دوران في حلقات مفرغة لا تؤدي إلى أية نتيجة، لا بل تُعكِّر صفو العلاقة الممتازة بين الدولة والمقاومة على طاولة التفاوض غير المباشر مع العدو الصهيوني.
والعودة إلى الطائف لا تعني فقط إحياء المؤسسات القائمة والفصل الدستوري بين هذه السلطات، ولا تعني أيضاً خلق مؤسسات اكتساها الغبار على رفوف إهمال تطبيق هذا الاتفاق، بل تعني استعادة الطوائف إلى دولة المؤسسات لانتظام العمل المتوازن، عبر انتشال هذه الطوائف الممزقة ببراثن زعماء ميليشيات استهلكتهم السلطة دون طائل، ومخالب بعض رجال دين أرادوا من الطوائف أن يكونوا رعايا وهُم الرعيان، والبلد الطوائفي لا يعني أن تبقى الطوائف بعهدة ميليشيات، حتى ولو تدثَّرت رؤوس زعمائها بعباءة طائفية أو عمامة مذهبية، وهي نفسها تطلب البركة والرضا من زعامات ميليشيوية فاسدة ارتكبت على مدى عقود كل الموبقات وكل الخطايا.