الثبات ـ فلسطين
هو الواجب المقدس في صراع الواجب والإمكان، هو روح داعية مسؤولة في وسط بحر من اللامبالاة والتقاعس، وهو رمز للإيمان والوعي والثورة والإصرار على عدم المساواة’ هذا هو ‘عزّ الدِّين القسَّام’ في عيني “فتحي إبراهيم عبد العزيز الشقاقي”.
ميلاد ونشأة المفكر
ولد الشهيد الدكتور المفكر فتحي ابراهيم عبد العزيز الشقاقي في مخيم رفح للاجئين بتاريخ 4- 1 – 1951م، وكان أكبر إخوته، ودرس في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية وتخرج من دائرة الرياضيات وعمل لاحقاً في سلك التدريس بالقدس في المدرسة النظامية ثم جامعة الزقازيق، وعاد إلى الأراضي المحتلة ليعمل طبيباً في مشفى المطلع بالقدس وبعد ذلك عمل طبيباً في قطاع غزة.
وتعود أصول أسرته إلى قرية “زرنوقة ” بالقرب من يافا في فلسطين المحتلة عام 1948م، وهاجرت أسرته إلى قطاع غزة، مع عشرات آلاف الأسر التي طردتها العصابات الصهيونية حيث استقرت في مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
توفيت والدة الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي وهو في سن الخامسة عشرة من عمره، كما توفي والده الحاج “إبراهيم الشقاقي” بتاريخ 5 – 3 – 2011م، عن عمر يناهز 85 عاماً، وذلك بعد مرور 16 عاماً على استشهاده.
مسيرة التضحية والفداء
لم يكن الشقاقي بعيدًا عن السياسة، فمنذ عام 1966م أي حينما كان في الخامسة عشرة من عمره كان يميل للفكر الناصري، إلا أن اتجاهاته تغيرت تمامًا بعد هزيمة 67، وخاصة بعد أن أهداه أحد رفاقه في المدرسة كتاب ‘معالم في الطريق’ للشهيد سيد قطب، فاتجه نحو الاتجاه الإسلامي، ثم أسَّس بعدها حركة الجهاد الإسلامي مع عدد من رفاقه من طلبة الطب والهندسة والسياسة والعلوم حينما كان طالبًا بجامعة الزقازيق.
كان الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي قبل العام 1967م ذا ميول ناصرية، ولكن هزيمة العام 1967م، أثرت تأثيراً بارزاً على توجهات الشهيد المعلم، حيث قام بالانخراط في سنة 1968م بالحركة الإسلامية إلا أنه اختلف مع الإخوان المسلمين، وبرز هذا الخلاف بعد سفر الشهيد لدراسة الطب في مصر عام 1974م فأسس الشهيد المعلم ومجموعة من أصدقائه حركة الجهاد الإسلامي أواخر السبعينيات.
اعتقل الشهيد فتحي الشقاقي في مصر في 1979م بسبب تأليفه لكتابه «الخميني، الحل الإسلامي والبديل»، ثم أعيد اعتقاله في تاريخ 20/7/1979 بسجن القلعة على خلفية نشاطه السياسي والإسلامي لمدة أربعة أشهر، غادر الشهيد الشقاقي مصر إلى فلسطين في تاريخ 1/11/1981 سراً بعد أن كان مطلوباً لقوى الأمن المصرية.
قاد بعدها الشهيد الشقاقي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وسجن في غزة عام 1983 لمدة 11 شهراً، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى عام 1986م وحكم عليه بالسجن الفعلي لمدة 4 سنوات و5 سنوات مع وقف التنفيذ: لارتباطه بأنشطة عسكرية والتحريض ضد الاحتلال الصهيوني ونقل أسلحة إلى القطاع”، وحينما أدركوا أن السجن لا يحدّ من نشاط الشقاقي الذي كان يحول المعتقل في كل مرة إلى مركز سياسي يدير منه شؤون الحركة من زنزانته، وقبل انقضاء فترة سجنه قام الاحتلال الصهيوني بإبعاده من السجن مباشرة إلى لبنان بتاريخ 1 أغسطس (آب) 1988م، بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ومنها تنقل بين العواصم العربية والإسلامية لمواصلة جهاده ضد الاحتلال الصهيوني.
ويعد الشهيد المعلم الدكتور فتحي الشقاقي أحد أبرز رموز التيار المستنير داخل الحركة الإسلامية لما يتمتع به من ثقافة موسوعية، واستيعاب عقلاني لمشكلات الحركات الإسلامية وقضاياها في العالم العربي والإسلامي.
كما يعتبر الشهيد المعلم مجدد الحركة الإسلامية الفلسطينية وباعثها في اتجاه الاهتمام بالعمل الوطني الفلسطيني، وإعادة تواصلها مع القضية الفلسطينية عبر الجهاد المسلح، فدخلت بذلك طرفاً رئيسياً ضمن قوى الإجماع الوطني الفلسطيني بعد طول غياب.
أمّة في رجل
أراد الشقاقي بتأسيسه لحركه الجهاد الإسلامي أن يكون حلقة من حلقات الكفاح الوطني المسلح لعبد القادر الجزائري، والأفغاني، وعمر المختار، وعزّ الدِّين القسَّام الذي عشقه الشقاقي حتى اتخذ من اسم “عز الدين الفارس” اسمًا حركيًّا له حتى يكون كالقسَّام في المنهج وكالفارس للوطن، درس الشقاقي ورفاقه التاريخ جيِّدًا، وأدركوا أن الحركات الإسلامية ستسير في طريق مسدود إذا استمرت في الاهتمام ببناء التنظيم على حساب الفكرة والموقف (بمعنى أن المحافظة على التنظيم لديهم أهم من اتخاذ الموقف الصحيح)؛ ولذلك انعزلت تلك الحركات -في رأيهم- عن الجماهير ورغباتها، فقرَّر الشقاقي أن تكون حركته خميرة للنهضة وقاطرة لتغيير الأمة بمشاركة الجماهير، كذلك أدرك الشقاقي ورفاقه الأهمية الخاصة لقضية فلسطين باعتبار أنها البوابة الرئيسة للهيمنة الغربية على العالم العربي.
وجد الشهيد الشقاقي أن الشعب الفلسطيني متعطش للكفاح بالسلاح فأخذ على عاتقه تلبية رغباته، فحمل شعار لم يألفه الشعب في حينها، وهو ‘القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية المعاصرة’، فتحول في شهور قليلة من مجرد شعار إلى تيار جهادي متجسد في الشارع الفلسطيني، ومن هنا كانت معادلته (الإسلام – الجهاد – الجماهيرية).
القائد الإنساني
أحبَّ الشهيد فتحي الشقاقي أشعار محمود درويش، ونزار قباني، وكتابات صافيناز كاظم، بل وكان له ذوق خاص في الفن، فقد أُعجب بالشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، كان شاعرًا ومفكرًا وأديبًا، بل وقبل كل ذلك كان إنسانًا تجلت فيه الإنسانية حتى يُخيل للبشر أنه كالملاك.. كان رقيق القلب ذا عاطفة جيَّاشة.. حتى إنه كان ينْظِمُ الشعر لوالدته المتوفاة منذ صباه، ويهديها القصائد في كل عيد أم، ويبكيها كأنها توفيت بالأمس.
عشق أطفاله الثلاثة: خولة، أسامة، إبراهيم حتى إنه بالرغم من انشغاله بأمته كان يخصص لهم الوقت ليلهو ويمرح معهم، تعلق كثيرًا بابنته خولة؛ لما تميزت به من ذكاء حاد؛ إذ كان يزهو بها حينما تنشد أمام أصدقائه: ‘إني أحب الورد، لكني أحب القمح أكثر…’.
لم يكن جبانًا قط، بل إن من شجاعته ورغبته في الشهادة رفض أن يكون له حارس خاص، وهو على دراية تامة بأنه يتصدر قائمة الاغتيالات الصهيونية، فضَّل أن يكون كالطير حرًّا طليقًا لا تقيده قيود ولا تحده حواجز.
في أعقاب تنفيذ الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي عملية بيت ليد المزدوجة التي نفذها الاستشهاديان أنور سكر وصلاح شاكر، وأدت لمقتل 22 صهيونياً وإصابة أكثر من 80 آخرين، بعدها بأيام أصدر رئيس حكومة “الاحتلال” في ذلك الوقت اسحق رابين قراره بإعداد خطة محكمة لاغتيال الأمين العام للحركة الدكتور “فتحي الشقاقي” رداً على العملية النوعية.
رحيل القائد المؤسس
في يوم الخميس الموافق 26-10-1995م اغتال الموساد الصهيوني الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي أثناء خروجه من أحد الفنادق في جزيرة مالطا التي وصل لها حاملاً جواز سفر ليبيا باسم ‘إبراهيم الشاويش’؛ لمناقشة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين على الحدود الليبية المصرية مع الرئيس الراحل معمر القذافي.
وأعلن المجرم ‘إسحاق رابين’ سعادته باغتيال الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي بقوله: ‘إن القتلة قد نقصوا واحدا’، ولم تمهله عدالة السماء ليفرح كثيرًا”، كما رأى الموساد الصهيوني أن عملية اغتيال الشهيد الشقاقي إحدى «أنجح العمليات التي قام بها»، لما كان يشكله من خطورة على الكيان الصهيوني.
تشييع جثمان القائد الكبير
رفضت السلطات المالطية السماح بنقل جثة الشهيد، كما رفضت العواصم العربية استقباله، وبعد اتصالات مضنية وصل جثمان الشهيد الشقاقي إلى ليبيا ‘طرابلس’؛ لتعبر الحدود العربية؛ لتستقر في ‘دمشق’ بعد أن وافقت الحكومات العربية بعد اتصالات صعبة على أن يمر جثمان الشهيد بأراضيها ليتم دفنه هناك.
وفي فجر 31-10-1995م استقبل السوريون مع حشد كبير من الشعب الفلسطيني والحركات الإسلامية بكل فصائلها واتجاهاتها في كل الوطن العربي جثمان الشهيد الذي وصل على متن طائرة انطلقت من مطار ‘جربا’ في تونس، على أن يتم التشييع في اليوم التالي 1-11-1995م، وتم دفن جثمانه الطاهر في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك بعد أن تحول التشييع من مسيرة جنائزية إلى عرس يحمل طابع الاحتفال بجريمة الاغتيال، حيث استقبله أكثر من ثلاثة ملايين مشيع في وسط الهتافات التي تتوعد بالانتقام والزغاريد التي تبارك الاستشهاد.