أقلام الثبات
مضت عدة أشهر على زيارة وزير الدفاع "الإسرائيلي" يوآف غالانت الى واشنطن، وطرح خلالها ما أسمتها صحيفة واشنطن بوست "خطة غالانت لليوم التالي"، التي تتناول التفاصيل الكاملة لما تراه الحكومة "الإسرائيلية مناسباً لها في قطاع غزة، ونال غالانت الموافقة الأميركية المطلقة في هذا الشأن، شرط التنفيذ العسكري السريع على الأرض قبل بداية شهر نوفمبر موعد الانتخابات الأميركية، فيما بدا محاولة من الحزب الديمقراطي لقطف الثمار في حسم موضوع حركة حماس، وتحقيق ذلك خلال ولاية الرئيس جو بايدن، دعماً لمعركة المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس، بمواجهة المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي يدّعي أنه لو كان في الحكم لما تجرأت حماس على تنفيذ عملية 7 أكتوبر، وهو بدوره يُطالب نتنياهو بإنهاء الحرب وسحق حماس قبل وصوله المرتقب إلى البيت الأبيض.
ووفق ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست"، فإن المسؤولين الأميركيين، أعلنوا رضاهم عن "خطة غالانت لليوم التالي"، وعبّروا عن تأييدهم لها، وتتضمن تلك الخطة:
- تشكيل لجنة توجيه بقيادة الولايات المتحدة، وعضوية دول عربية معتدلة، للإشراف على تنفيذ الخطة.
- تشكيل قوة دولية توكل فيها مهام الأمن إلى كل من مصر والأردن والإمارات والمغرب، في حين سيدير الجنود الأميركيون الجانبين القيادي واللوجستي من خارج غزة، وعلى الأرجح من مصر.
- التنفيذ سيتم على مراحل، من شمال القطاع إلى جنوبه، مع تحسين الظروف التي ستجعل التطبيق ممكناً.
- يفترض المقترح أن قدرات «حماس» العسكرية قد تمّ تقليصها بالقدر الكافي، بحيث لن تكون قادرة على تنفيذ هجمات واسعة النطاق.
ويبدو أن التطورات المتلاحقة التي حصلت، خاصة بعد اغتيال رئيس حركة حماس يحي السنوار منذ أيام جعلت الأمور أكثر تعقيداً، وكانت حركة حماس قد تبدلت تكتيكاتها وتحولت أنشطتها إلى حرب العصابات، مع تحوُّل القدرات الهجومية الصهيونية في غزة نحو الجبهة الشمالية مع لبنان، واحتدام المواجهات الشرسة خاصة بعد اغتيال سماحة السيد حسن نصرالله وقيادات في حزب الله، بما يعني أن نظرية "اليوم التالي" باتت في المنظور الأميركي والرؤية "الإسرائيلية" أوسع وأشمل، بل هي قطعاً أخطر عملية خلط أوراق منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي رسَّمت حدود الكيانات السياسية الحالية، والتي جاء وعد بلفور عام 1917 كملحقٍ تطبيقي لها.
العقبة الوحيدة أمام "خطة غالانت لليوم التالي"، هي في رفض الدول العربية المعنية المشاركة بها، وهي جميعاً من دول التطبيع، ما لم يتم اقتران الخطة بإقرار حل الدولتين، خصوصاً مصر التي تتجاور مع قطاع غزة من جهة محافظة رفح، حيث تحتل "إسرائيل" الآن محور فيلادلفيا، الذي يرمز إلى اتفاقية كامب دايفد، والأردن الذي تغلي شوارعه الجماهيرية وتطالب بطرد السفير "الإسرائيلي" وإلغاء اتفاقية وادي عربة.
.
بالإضافة إلى مواقف دول "الاعتدال العربي" ذات العلاقة، يبرز الموقف السعودي الذي يُعتبر لغاية الآن تاريخياً، من خلال رفض التطبيع مع "إسرائيل"، قبل الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وقيام دولتهم المستقلة، مع الإشارة إلى أن نشاط الديبلوماسية الإيرانية في لبنان والإقليم، بات يُعرِّج على المملكة، لأنها تمتلك مفاتيح أي "شرق أوسط جديد"، بصرف النظر عن الحلم الأميركي القديم / الجديد، منذ زمن كونداليزا رايس في عهد أوباما حتى زمن أنتوني بلينكن في عهد بايدن، مع الإشارة إلى أن من شروط الصلح الذي تمّ بين المملكة وإيران في شهر آذار/ مارس عام 2023، أن تعمل الدولتان الأهم إقليمياً على منع قيام أية حرب شاملة في الشرق الأوسط، وهذه رغبة سعودية لإنجاح خطة 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي تحتاج أمناً إقليمياً استثنائياً، ورغبة إيرانية في نفس السياق، للخروج من الضائقة الاقتصادية الناتجة عن عقود من الحصار، وبصرف النظر عن تعارض الموقفين الإيراني والسعودي من محور المقاومة، فإن الدولتين تلتقيان عند نقطة وجوب قيام دولة للفلسطينيين، بصرف النظر عن شكل ووضع هذه الدولة.
ونختم مع الوضع اللبناني، حيث الجميع من حلفاء وخصوم يحمِّلون حزب الله وزر المواجهة منفرداً، وبصرف النظر عن المواجهات الميدانية، نتوقَّف عند نقطتين خطيرتين ترتبطان بتداعيات الحرب على مستوى التهجير، الأولى يتداولها ببساطة الإعلام اللبناني حول تهجير شيعة لبنان إلى العراق، والثانية يغفلها هذا الإعلام وهي ترتبط بزيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى بيروت منذ أيام، وهي المعروف عنها أنها رأس الحربة الأوروبية في مواجهة التهجير من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوروبا.
في الخبر الأول عن تهجير شيعة لبنان إلى العراق، بكل هذه البساطة، فإن هذا الإعلام يكتب بحبر البلاهة عن تهجير ثلث سكان لبنان، لو سلمنا جدلاً بأمنيات الخصوم حول عودة الوضع في لبنان إلى ما قبل العام 2000، وهنا لا نملك عبقرية الخبراء العسكريين والاستراتيجيين في الاجتهادات السوريالية ولكن، نمتلك من الروح الوطنية والانتماء اللبناني ما يُخوِّلنا القول لهؤلاء الإعلاميين: خسئتم، وخسئ معكم "مرعى الأخضر الأميركي".
الخبر الثاني، يبدو أكثر واقعية، حول هدف زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى بيروت، لأن الزيارة جاءت مُريبة، حتى في تبرير ميلوني نفسها، وغيابها عن اجتماع قادة دول أوروبية بارزين مع الرئيس الأميركي جو بايدن في برلين لتزور لبنان، وقالت: "لن أتمكن من المشاركة في اجتماع برلين تحت أي ظرف من الظروف، ربما يكون من المفيد التحدث مع الجهات الفاعلة في المنطقة بدلاً من القيام بذلك فيما بيننا. لذلك تحظى هذه الزيارة للبنان الآن بأولوية بالنسبة لي"، وهنا بدت ميلوني وكأنها مبعوثة أوروبية للوقوف على الأوضاع في لبنان، التي تَشِي، بأن لبنان بما يحتويه من لاجئين ونازحين أو حتى لبنانيين مقيمين، يتهيأ لركوب البحر وكل وسائل النقل للوصول إلى أوروبا، لو استمر مسلسل الجنون في إخراج الفيلم الأميركي الجديد: الشرق الأوسط الجديد، وننهي مع تصريح لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي منذ ساعات بقوله: الحل في لبنان هو لبناني - لبناني، فمتى يستفيق المُعاقون من أهل السياسة، أن كل "يومٍ تالٍ" يحتاج دائماً إلى سنواتٍ تالية، لأن أزماتنا مشكلتها الدائمة هي إعاقتهم المزمنة في الفكر والضمير والأخلاق..