أقلام الثبات
يعتقد الكثير من الخبراء الأميركيين أن "حرية الدخول والحركة في المناطق الحيوية"، قد أثبت خلال مئة عام أنه من أهم الأهداف التي يمكن للأميركيين بذل الكثير من التضحيات لأجل الحفاظ عليه أو تحقيقه. وبشرح بسيط، لقد كان الأميركيون يهدفون دائمًا إلى المحافظة على حرية وصولهم إلى تلك المناطق الحيوية بلا قيود، وعلى نظام سياسي متوازن يضمن لهم نفوذًا في كل من أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، لذا هم لم يترددوا في شن حرب عسكرية لحماية هذا الهدف الحيوي والرئيسي بالنسبة لهم.
المجالان الأولان (أوروبا وشرق آسيا) يعتبران من المناطق الحيوية بالنسبة للأميركيين بسبب تواجد قوى عظمى أخرى، وبالتالي يهمّ الولايات المتحدة منع أي دول منافسة مؤثرة من السيطرة على تلك المناطق، أو منع الولايات المتحدة من حرية الحركة في تلك المناطق. أما المجال الثالث - الشرق الأوسط - فمهم بسبب أمن "اسرائيل"، ووجود النفط، وهو مصدر طبيعي بالغ الأهمية للدول الكبرى في جميع أنحاء العالم.
في مسار التاريخ الأميركي كله، كانت أوروبا أهم هذه المناطق الثلاث. اعتمدت الولايات المتحدة سياسة "أوروبا أولاً" حتى قبل دخولها الحرب العالمية الثانية، فعلى الرغم من أن اليابان، وليس ألمانيا، هي التي هاجمت بيرل هاربور، حافظ الأميركيون على سياسة "أوروبا أولاً" طوال فترة الحرب. وخلال الحرب الباردة، كانت أوروبا ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكثر من آسيا، ولهذا السبب كان الأميركيون يحوّلون القوات الأميركية من آسيا إلى أوروبا عندما يزداد التشنج بين القطبين .
منذ مجيء جو بايدن، بدأت الولايات المتحدة الأميركية سلسلة من الاجراءات في تلك المناطق الحيوية الثلاث، فقامت بدفع روسيا دفعاً الى عملية عسكرية ضد اوكرانيا بعد إصدار العديد من المؤشرات المقلقة للروس، والتي تمسّ بقوة بالأمن القومي الروسي بقوة، وذهب الأميركيون الى منطقة شرق آسيا لتطويق الصين، كما اندفعوا لتأييد اسرائيل في حرب إبادة في غزة، والهجوم على لبنان، من أجل تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط.
وفي تقييم مسار الحروب الأميركية الجديدة في كل من أوروبا والشرق الأوسط، نجد أن الأميركيين يسعون الى استنزاف القوى التي تعاديهم أو تقوّض نفوذهم في كل من أوروبا والشرق الأوسط، ولو عبر استنزاف حلفائهم في هذه العملية.
ففي أوكرانيا، استمر الأميركيون بتقديم دعم عسكري وسياسي غير محدود لأوكرانيا، وأجبروا الأوكران على الاستمرار بالقتال لاستنزاف روسيا، بالرغم من أن الحرب استنزفت اقتصاديات حلفائهم في الاتحاد الاوروبي واثّرت على الحكومات الحليفة بصعود اليمين الاوروبي والذي يهدد بالإطاحة بالحكومات الغربية لأسباب متعددة منها حرب أوكرانيا.
أما في الشرق الأوسط، وبالرغم من الدعم غير المسبوق "لإسرائيل"، والانخراط الأميركي العسكري غير المباشر، إلا أن الهدف النهائي المشترك بين الاسرائيليين والأميركيين وهو استنزاف محور المقاومة وإضعاف إيران وهو هدف مطلوب أميركياً بقوة، ولو أن الأمر سيؤدي في نهاية المطاف الى استنزاف "اسرائيل" أيضاً.
وعليه، يسعى الأميركيون اليوم كما كان الهدف دائمًا هو منع هيمنة أي دولة أخرى - معادية - من بسط السيطرة والهيمنة على واحدة من هذه المناطق الحيوية الرئيسية، لذلك نجد القادة الأميركيين – وكما خلال مئة عام - مستعدين لانخراط عسكري لمنع أي دولة من تحقيق الهيمنة في كل من أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، ولو كان ذلك على حساب الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء.