أقلام الثبات
قد نكون استفقنا من الصدمة العاطفية باستشهاد سماحة السيد حسن نصر الله، هو الذي كان يتمنى الشهادة، لكن بعيداً عن العاطفة، ومحاولة منا لتحكيم العقل، لا نحتاج إلى عمليات حسابية في تقدير عمر الراحل الكبير في أفئدة وضمائر وعقول مَن عاش فيهم الحسين (عليه السلام) 1400 سنة وما زال، وهُم الذين لا يعرفون الحسين، ولا عاصروه ولا واكبوه، ولا قادهم على طريق الانتصارات ولا احتضن شهداءهم وعوائل شهدائهم، ولا تبنَّاهم حيث احتاجوا الأب الحاني على أوجاعهم وآلامهم، وعلى حاجاتهم الحياتية.
قد يصبح السيد نصر الله ذكرى عظيمة في أحضان التاريخ، كما كل الكبار، لكنه لدى أهل الشيعة لن يكون كذلك، لأنهم دينياً وإيديولوجياً موالون لآل البيت، وزيارة أضرحة أئمتهم أولى فرائض الزيارات على امتداد أجيال، رغم أن أياً من آل البيت لم يؤسس لهم منظومة حماية دنيوية مواكبة للعصرنة، فكيف بهم مع مَن لم يربط مؤسساتهم الاجتماعية بشخصه، واعتمد الهرمية الإدارية لحمايتهم ورعايتهم، كي يبقى بينهم في ركن كل مؤسسة وفي كل إنجاز وفي كل انتصار؟
اليهود قبل سواهم يفقهون مقصدنا في تبيان ظاهرة السيد حسن نصر الله، لأنهم من أهل الكتاب، لا بل مرجعهم التوراة والتلمود وآلاف السنوات من الاجتهادات الدينية، التي يحلل بعضها قيام "مملكة إسرائيل" ويرفضها بعضهم الآخر، لكن الأمر مختلف عند الشيعة، لأنهم يجتمعون على إرث الحسين، كما أجمع أئمتهم عبر الأجيال على ذلك، لا بل استطاعوا جعل "كربلاء" أساس ثقافتهم في رفض الظلم والثورة على الظالم، و"عولموا" فكر الحسين حيث هناك ظلم في كافة مناحي الأرض.
ولم يكُن السيد نصرالله قائد حقبة من عمر الزمن، بل كان يؤسس لبيئته ووطنه حقبات آتية عليهم قد يظلمهم فيها الزمن، في محيطٍ جغرافي هو بالنسبة إلى كل اللبنانيين مسألة قضاءٍ وقدر، و"مأسس" السيد ما أسَّسَه، وهَيكَل حزب الله من أعلى الهرم إلى القاعدة و"برمج" خطط المواجهة الكبرى منها والصغرى، ونقلاً عن إعلامي مقرَّب جداً من حزب الله، عقد السيد منذ سنوات سلسلة اجتماعات تنظيمية للقيادات، ووضع أقصى وأقسى احتمالات المواجهة مع "إسرائيل"، بما فيها القصف الجوي الشامل لكل لبنان، ووصل في خلاصة اجتماعاته إلى القرار التاريخي: يجب أن تكون لدينا قدرات عسكرية في الخفاء العميق، ليبقى لدينا ما يكفي لهزيمة "إسرائيل".
وبما أن كلمة نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ظهر يوم الإثنين، لتأكيد المؤكد؛ أن حزب الله ملتزم بكل كلمة وموقف وإجراء للأمين العام الراحل، خصوصاً لجهة وجود البدائل البشرية والقدرات الذاتية لاستكمال مسيرة الأمين الشهيد، فإن ما لن يتم تعويضه على المستوى السياسي اللبناني، أن المدرسة التي أسسها السيد نصرالله، في علم السياسة والاجتماع، والانصهار الوطني بين اللبنانيين، من الصعب تعويضه، لأن السيد نصرالله ولِد في بيئة متواضعة، ونشأ في بيتٍ فقير وعاش معاناة المظلومية، وامتلك "كاريزما" التواضع والإقبال على أي آخر، وهذه مزايا لم يمتلكها أحدٌ من سكان القصور والبيوتات السياسية، وتلك العمامة السوداء ستعيش طويلاً في حنايا الضمائر، شعاراً لمدرسة أسسها حسن نصرالله، وهي مدرسة مختلطة للبنين والبنات، للكبار والصغار، للمسيحيين قبل المسلمين، وعنوان نشيدها الوطني ما كان يكرره السيد نصرالله عند كل إطلالة: الصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين، ومواد التدريس فيها: دماثة الأخلاق، وأدبيات التخاطب، وثقافة الاعتراف بالآخر واحترام الغير، والجمع بين الكِبَر والتواضع، وشمولية الرؤية التي تقول: السياسة هي إدارة المجتمع وخدمة الناس بنزاهة وكفاءة وأخلاق.