أقلام الثبات
كان متوقَعاً أن يُبادر البيت الابيض الى نفي تقارير تعتبر الميناء الأميركي العائم قبالة قطاع غزة قاعدة لعمليات قتالية أو محطة للاستيلاء على المنطقة، ربما لأن ساكني البيت الأبيض يُدركون أن كل خطوة أميركية خارجية تخرج من جدران الغرف السوداء مشكوك بصدقيتها، سيما أن البحث بإقامة ميناء على شاطئ غزة قد حصل عام 2016، فلماذا تم إقرار تنفيذه بعد شهرين من عملية طوفان الأقصى(عندما كانت الطروحات متداولة بين أميركا و"إسرائيل" و"عرب الاعتدال" بضرورة تهجير أبناء غزة بحراً)؟
وفق معهد الشرق الأوسط للدراسات، تم وصف هذا المشروع بأنه ميناء اللاعودة، وهو اسم أطلِق على نقاط عبور عند شواطئ إفريقيا التي كانت تُستخدم في تجارة الرقيق عبر الأطلسي، والغريب لا بل الغامض في السياسة الأميركية أن هذا الميناء أو الرصيف العائم الذي توقف البحث به عام 2016، أعلن الرئيس بايدن منذ خمسة أشهر، وفي حمأة العدوان على غزة، عزم إدارته تنفيذه بهدف إدخال الغذاء والدواء والمواد الاستهلاكية للقطاع، علماً أنه لا يؤمِّن أكثر من 30% من حاجة القطاع، ولا يُغني عن المعابر البرية سواء رفح أو كرم أبو سالم، خصوصاً مع إغلاق "إسرائيل" المعابر من جهتها، رغم أنها خاضعة لتفتيشها، بدل أن يتمّ هذا التفتيش الآن في ميناء نيقوسيا القبرصي قبل إبحار السفن الى شاطئ غزة، لكن يبدو أن سوء العلاقة بين إدارة بايدن والحكومة اليمينية في "إسرائيل" دفع الرئيس الأميركي لعرض عضلاته على طريقة "الكاوبوي" الذي لا يؤتمَن، بعد أن وصلت أولى دفعات الصفقة المحظورة من القنابل الذكية الى "إسرائيل"، وأدار نتانياهو ظهره لبايدن، وبدأ الجيش الصهيوني بدخول رفح، وتفتيش الأنفاق تحت محور فيلادلفيا من الجانب الفلسطيني على مرأى من مصر.
وتزامن افتتاح الرصيف الأميركي العائم وتسويق البيت الأبيض له، تحت مسمى "ميناء بايدن" مع خبر من العيار الثقيل، حيث أعلنت الموظفة اليهودية ليلي غرينبرغ استقالتها من وزارة الداخلية الأميركية بسبب حرب غزة، وذكرت وكالة "أسوشيتد برس" أن برينبرغ تقدمت باستقالتها الأربعاء الماضي، احتجاجاً على الدعم الأميركي للحرب "الإسرائيلية" في غزة، واستخدام اليهود الأميركيين في الصراع، لكن أبرز ما كان يميِّز هذه الموظفة اليهودية أنها كانت من أنشط الفاعلين في معركة بايدن الانتخابية عام 2020، ووصفت في كتاب استقالتها، سعادتها بالانضمام إلى الإدارة الأميركية التي كانت تعتقد أنها تشاركها الكثير من رؤيتها للبلاد، لكنها ختمت كتاب الاستقالة بالقول: "ومع ذلك، لم يعد بإمكاني بضمير حيّ الاستمرار في تمثيل هذه الإدارة".
قد تكون "برينبرغ" قرأت أفضل من سواها، أن ترجيحات استطلاعات الرأي في أميركا تؤكد، أن بايدن تنتظره الهزيمة المحققة أمام ترامب في المعركة الرئاسية بعد أشهر: 303 نقاط لترامب مقابل 235 نقطة لبايدن، نتيجة استياء فئة الشباب في أميركا من دعم إدارة بايدن للعدوان على غزة، خصوصاً بعد تعرُّض طلاب الجامعات للقمع، وانقلاب المؤيدين من الأميركيين العرب والمسلمين عليه نتيجة مواقفه الصهيونية المعلنة من جهة، والتفريط بهيبة أميركا أمام اللوبي الذي يدَّعي تمثيل اليهود من جهة أخرى.
والوضع السياسي في الداخل "الإسرائيلي" ليس أفضل، حيث انتفض الوزير في مجلس الحرب "الإسرائيلي" بيني غانتس، على مراوغة رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، وأُمهله حتى 8 حزيران/ يونيو المقبل، لتحديد استراتيجية للحرب، وقال: "إذا واصل طريقه الحالي فسنتوجه للشعب لإجراء انتخابات”، موضحاً أنّه سينسحب من حكومة الطوارئ إذا لم يلبِّ نتنياهو الطلبات بشأن مقترح صفقة الرهائن الأخيرة التي يعتبرها متوازنة ويُمكن تطويرها، وشجب رفض نتانياهو لها رغم موافقة حماس عليها.
وجاء رد نتانياهو بأن شروط غانتس تعني إنهاء الحرب وهزيمة “إسرائيل” والتضحية بالأسرى والإبقاء على حماس وإقامة دولة فلسطينية، وقال: “لم يسقط جنودنا هباء، وبالتأكيد ليس من أجل استبدال حماستان بفتحستان".
لكن عندما يُذكر بيني غانتس في "إسرائيل"، فهو يبدو كما الربيب الوفي لأميركا، وتحركاته في الأشهر الأخيرة، خاصة تلبيته دعوة واشنطن لزيارتها وتعريجته على بريطانيا في طريق العودة، بدا وكأنه رئيس حكومة رديفة بمواجهة نتنياهو ووزراء الليكود التابعين، إضافة الى الوزيرين العنصريين بن غفير وسيموترتش.
ومع خصومة غانتس، تبرز أيضاً منافسة وزير الدفاع يوآف غالنت لنتانياهو، الذي قال عنه الكاتب السياسي في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناتيوس: “يتوافق نهج وزير الدفاع يوآف غالانت مع نهج إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي تحثّ نتنياهو منذ أشهر على البدء ببناء قوات فلسطينية يمكنها في نهاية المطاف تولّي المسؤولية الأمنية في غزة”.
ونُقِل عن أحد المسؤولين الأميركيين وصفه لغالانت، الذي لعب دوراً كبيراً في الحوار الأميركي "الإسرائيلي" في الأشهر الأخيرة، مع توتّر العلاقات بين نتنياهو وبايدن، بأنّه "شخص لا غنى عنه" لحلّ المشاكل، في الجدل المتوتّر بشكل متزايد حول كيفية إنهاء الحرب في غزة، وأنه على الرغم من أنّ الجزء الأكثر وضوحاً في النزاع بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" كان حول غزو رفح، فإنّ السؤال الأكثر أهمّية هو كيفية إنهاء العمليات العسكرية وتحقيق الاستقرار في غزة.
لا نملك إجابة على سؤال السياسي الأميركي حول اليوم التالي المُنتظر لغزة سوى القول: لم يعُد لدى غزة ما تخسره، والأميركي الذي يفتتح باليد اليمنى ميناءً لمساعدة غزة، ويده اليسرى تدعم العدوان بالقنابل الذكية، ما عليه سوى انتظار الخيبة على شاطئ غزة.