الثبات ـ دولي
أسس الروس مدينة هاربن في شمال منشوريا (إقليم في شمال الصين) عام 1898 لتكون محطة مركزية في خط سكة الحديد الشرقي الصيني.
بعد انتهاء الحرب الأهلية في روسيا ( 1918 – 1922) أصبحت هاربن عاصمة غير رسمية للمهجر الروسي في شرق آسيا. وحتى أن الصينيين أطلقوا عليها اسم "موسكو الشرقية". ومع ذلك، فإن عمر هذه القطعة الفريدة للحضارة الروسية كان غير طويل.
بلغ الوجود الروسي في هاربن ذروته في عشرينيات القرن العشرين. وفي عام 1928، وفقا للإحصاءات، سكن في المدينة 108000 روسي. وحسب الكاتب السوفييتي إي. بوليفوي، كانت هاربن عام 1930 مدينة روسية بنسبة ثلاثة الأرباع. وكانت منطقة (مودياغو)، حيث سكن 90% من الروس، تبدو غير معتادة بشكل خاص بالنسبة للصين. وعملت في هاربن شركات رجال الأعمال الروس والكنائس الأرثوذكسية والأديرة، وتم نشر الكتب والصحف باللغة الروسية، وتم إنشاء جمعيات عامة وعلمية وأدبية، وأُخرجت كذلك أفلام باللغة الروسية. واحتفظ الروس العاملون في سكة الحديد والمهاجرون بالطريقة التقليدية للحياة الروسية، وسعى عدد قليل منهم فقط إلى دراسة اللغة والثقافة الصينيتين.
بدأت التغييرات في حياة سكان هاربن عام 1931، عندما غزت القوات اليابانية منشوريا. وفي عام 1932، أصبح أهالي هاربن سكان دولة جديدة، وهي مانشوكو، ولكن تحت سيطرة الإمبراطورية اليابانية، وبدأت المدينة تشهد تدهورا اقتصاديا، حيث قام اليابانيون بتقييد قائمة المهن التي كان يمكن للروس مزاولتها.
وانتقلت العديد من مؤسسات التعليم العالي، بما في ذلك معهد هاربن للفنون التطبيقية، إلى اللغة اليابانية كلغة التعليم، كما انخفض عدد المدارس الروسية أيضا. وبدأ المهاجرون الروس بالتحرك بشكل جماعي إلى المدن الكبرى التي تسيطر عليها الصين، مثل شنغهاي وتيانجين.
وخلال الحرب العالمية الثانية، حاولت هاربن الروسية، أن تعيش حياتها السابقة رغم الصعوبات الكبيرة. تغير كل شيء في 20 أغسطس 1945، عندما حرر الجيش الأحمر هاربن، حيث ساعد الشباب المهاجرون من مقر الدفاع في المدينة الذي تم تشكيله في القنصلية السوفيتية، جنود الجيش الأحمر في نزع سلاح اليابانيين المستسلمين. وأدى الانتصار الرائع للسلاح الروسي تحت العلم الأحمر إلى تغيير آراء المهاجرين من الحرس الأبيض وأصبح العديد منهم أكثر ولاء للسلطة السوفيتية.
وعاد بعض سكان هاربن إلى الاتحاد السوفيتي. ومنحت هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الحق في الجنسية السوفيتية لجميع الأشخاص الذين كانوا من رعايا روسيا القيصرية قبل 7 نوفمبر 1917، ولكن بمجرد وصول القطارات من منشوريا إلى الوطن، تمت مصادرة كتب المهاجرين من سكان هاربن، وسرعان ما انضم العديد من العائدين إلى سجناء ستالين، بينما جعل الانتصار الشيوعي في الحرب الأهلية الصينية الحياة في المنفى بلا معنى. وتم نقل المدارس الروسية في هاربن إلى المناهج السوفييتية. ومارس المسؤولون الصينيون ضغطا على الروس بموافقة كاملة من الاتحاد السوفييتي.
وفي عام 1954، دعت سلطات الاتحاد السوفييتي أهالي هاربن إلى العودة إلى وطنهم لاستصلاح الأراضي البكر. وتطور مصير هؤلاء الأشخاص بشكل جيد، على عكس أولئك الذين غادروا الصين خلال حياة ستالين.
وقال المؤرخ الروسي أوليغ جونشارينكو في كتابه "هاربن الروسية":" عندما غادر منشوريا، في صيف عام 1954، آخر قطار يحمل المهاجرين الروس المتجهين إلى الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك عدد كبير من سكان هاربين، يمكن القول إن الجالية الثقافية الروسية في هاربن ومنشوريا لم يعد لها وجود".
في عام 1958، تم هدم المقابر الروسية في المدينة. وتم استخدام بعض الآثار الحجرية لبناء سد سونجاري. ويمكن اعتبار إغلاق دير (قازان-بوغوروديتسكي) في ضاحية جونداتييفكا عام 1960 نهاية رمزية لـ"هاربن الروسية".
وخلال الثورة الثقافية هدم المعجبون بماو تسي تونغ حوالي 12 كنيسة أرثوذكسية. واستمرت هجرة ما تبقى من السكان من حملة الجنسية الروسية في وقت لاحق، حتى السبعينيات. ولم يبق سوى عدد قليل من أحفاد المهاجرين ليعيشوا حياتهم في هاربن والتي أصبحت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، سواء في المظهر أو في الروح، مدينة صينية بالكامل، يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة.