مقالات مختارة
ادّعت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً إبّان مرحلة الحرب الباردة التي انقسم فيها العالم إلى معسكرين متصارعين، أنها المدافع الوحيد عن قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام القانون على الساحة الدولية.
وحين انهار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، روّجت لهذا الحدث التاريخي باعتباره دليلاً على سمو منظومة القيم الليبرالية التي لا يجسدها أحد سواها، وطالبت المجتمع الدولي كله بتبنّيها والعمل على وضعها موضع التطبيق.
غير أن السلوك الفعلي لهذه الدول في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كشف عن وجود فجوة كبيرة بين الأقوال والأفعال، وبالتالي وضعها أمام اختبارات لم تستطع أن تجتاز أياً منها بنجاح. والأمثلة على صحة هذه المقولة عديدة وقاطعة، ربما كان أبرزها إصرار إدارة بوش الابن على غزو العراق عام 2003 واحتلاله، من دون أي مبرر أو مسوغ قانوني أو أخلاقي، خصوصاً أن هذا الغزو تم في سياق وعقب حملة ممنهجة من الأكاذيب والافتراءات الأميركية. ورغم ذلك كله، يمكن القول إن السقوط الأخلاقي للغرب بصفة عامة، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، تجلى بأكبر قدر من الوضوح عبر موقفيهما من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني منذ ما يقرب من ثمانية أشهر.
فحين أقدمت حماس على شن عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تبنّت إدارة بايدن على الفور رواية إسرائيلية تدّعي أن حماس قامت بقطع رؤوس المواليد واغتصبت النساء بشكل ممنهج، وارتكبت العديد من الجرائم الأخرى التي لا يمكن أن تصدر إلا عن جماعة "إرهابية" منزوعة الضمير والقيم الإنسانية.
ورغم أنه ثبت لاحقاً أنها رواية مختلقة من الأساس، فإن "إسرائيل" كانت في أمسّ الحاجة إليها لتبرير عملية "السيوف الحديدية" التي ردّت بها على "طوفان الأقصى"، بكل ما انطوت عليه من إبادة جماعية للفلسطينيين، كما كانت الولايات المتحدة في حاجة ملحّة إليها كذلك لتبرير تكييفها لهذه العملية باعتبارها "ممارسة لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وأيضاً لتبرير قرارها بفتح خزائن المال والسلاح الأميركي لتغرف منها "إسرائيل" ما تشاء.
وفي تقديري أن هذا الموقف الأميركي لم يستند إلى أي مبرر أخلاقي أو قانوني. فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن حماس هي أولاً وقبل كل شيء، وبصرف النظر عن أي اعتبارات أيديولوجية، حركة سياسية تناضل لتحرير أرضها المحتلة في فلسطين، وسبق لها أن خاضت انتخابات تشريعية عام 2006 حازت فيها على ثقة أغلبية الشعب الفلسطيني في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
صحيح أنها حركة مسلحة، لكن القانون الدولي يبيح لحركات التحرر الوطني استخدام كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك حمل السلاح في مواجهة المحتل، كما تدرك أيضاً أن "طوفان الأقصى" لم يبدأ من فراغ وإنما جاء رداً على اعتداءات واستفزازات صهيونية استمرت لعشرات السنين، شملت مصادرة الأراضي وتدمير المنازل والاستيلاء على الممتلكات وترحيل الفلسطينيين قسراً واعتقالهم إدارياً وممارسة كل صنوف التعذيب والاضطهاد العنصري ضدهم والاقتحام المتكرر لأماكن عبادتهم، خاصة المسجد الأقصى. وفي سياق كهذا، يصعب الادعاء بأن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" حالياً على الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة منذ سنوات تستند إلى حق ومبدأ "الدفاع الشرعي عن النفس".
لم تكتف إدارة بايدن بفتح خزائن المال والسلاح الأميركي لتغرف منها "إسرائيل" ما تشاء، لكنها سارعت في الوقت نفسه إلى تقديم دعم عسكري مباشر وملموس لـ"دولة" تحتل أراضي الغير، إذ صدرت الأوامر لعدد من قطع الأسطول الحربي الأميركي، بما في ذلك حاملات طائرات، بالتوجه فوراً إلى منطقة الشرق الأوسط لتكون قريبة من الشواطئ الفلسطينية المحتلة.
صحيح أن "إسرائيل" وهي "دولة" نووية تملك "جيشاً" يعدّ من أقوى جيوش العالم، لم تكن بحاجة إلى دعم عسكري أميركي بهذا الحجم في مواجهة فصيل صغير يعاني من الحصار منذ سبعة عشر عاماً، غير أن الولايات المتحدة سعت من وراء قرارها بتقديم هذا الدعم ردع محور المقاومة في المنطقة والحيلولة دون إقدام أي من أطرافه على تقديم أي شكل من أشكال الدعم والمساندة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، كي يسهل على "إسرائيل" أن تلقي بكل ثقلها العسكري لتصفيتها.
ولأن بعض أطراف هذا المحور، وفي مقدمتهم أنصار الله اليمنيون، اختار ألا يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية، وبالتالي قرر تقديم ما يستطيع من دعم ومساندة عسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، لم تتردد الولايات المتحدة في الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة مع القوات المسلحة اليمنية، بدعوى المحافظة على حرية الملاحة في أعالي البحار، ما يعني مشاركتها الفعلية في حرب الإبادة الجماعية التي تشن على الشعب الفلسطيني.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الدعم الأميركي لـ "إسرائيل" لم يقتصر على النواحي العسكرية، وإنما امتد ليشمل جميع الجوانب الأخرى السياسية والاقتصادية والإعلامية، حتى بعد أن تبين لإدارة بايدن بوضوح تام أن ما تقوم به "إسرائيل" لا يعدّ حرباً على تنظيمات مسلحة وإنما هو في حقيقته عملية إبادة جماعية شاملة للشعب الفلسطيني، بدليل إقدام "إسرائيل" منذ بداية الحرب على قطع الكهرباء والماء والغذاء عن كل سكان قطاع غزة، وقيامها باستهداف وتدمير مساكن ومدارس ومستشفيات ومعامل، وقتل وجرح عمال إغاثة وإسعاف وصحفيين، بل وخنق كل مظاهر الحياة في القطاع.
وحين أدى ذلك كله إلى إقدام دولة مثل جنوب أفريقيا على رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها "إسرائيل" بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني وتطلب منها اتخاذ إجراءات احترازية لوقف هذه الأعمال، لم تتردد الولايات المتحدة في القيام بمرافعة أمام هذه المحكمة، ادعت فيها أن "إسرائيل" تخوض حرباً مشروعة "دفاعاً عن النفس"، وأن محكمة العدل الدولية ليست مختصة بالنظر في قضية تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين، لأن مجلس الأمن هو وحده المختص بالنظر في هذا النوع من القضايا، بل ولم تخجل من الاستشهاد بحجج وأسانيد تتناقض كلياً مع تلك التي استشهدت بها حين ترافعت أمام المحكمة نفسها في القضية التي اتهمت فيها روسيا بارتكاب أعمال إبادة جماعية إبّان حربها على أوكرانيا.
على صعيد آخر، تدعي إدارة بايدن أنها تسعى لإبرام هدنة لتبادل الأسرى والمحتجزين، وتعمل بدأب لزيادة المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، والبحث عن مخرج سياسي يعيد إحياء "حل الدولتين"، بيد أن كل تصرفاتها على أرض الواقع تؤكد أنها ليست جادة، وأن هدفها الحقيقي هو منح "إسرائيل" كل ما تحتاج من وقت لتحقيق أهدافها في الحرب، رغم إدراكها التام لكل ما تنطوي عليه تلك الأهداف من تناقض.
فقد عجزت "إسرائيل" عن تدمير حماس، وعن استعادة أي من المحتجزين، ولم تنجح على مدى ما يقرب من ثمانية أشهر إلا في شيء واحد، ألا وهو تدمير قطاع غزة بأكمله وتحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة، وفي ارتكاب مجازر راح ضحيتها حتى الآن ما يقرب من مئة وخمسين ألف شخص بين قتيل وجريح ومفقود.
صحيح أن الولايات المتحدة قامت بإطلاق مبادرة "الرصيف العائم" للتدليل على اهتمامها بزيادة حجم المساعدات الإنسانية الموجهة للقطاع، لكنّ البعض يرى فيها مبادرة مشبوهة ويحاجج بأنه لو كانت النية الأميركية حسنة لكان الأولى بها أن تضغط على "إسرائيل" لفتح المعابر البرية التي يعتقد على نطاق واسع أنها الوسيلة الوحيدة لضخ مساعدات تكفي لتخفيف حدة المجاعة التي تضرب القطاع. وصحيح أيضاً أن إدارة بايدن تدعي أنها تسعى للتوصل إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية على أساس "حل الدولتين"، لكن سلوكها الفعلي يؤكد أنها استخدمت الفيتو أربع مرات في مجلس الأمن، ثلاث منها للحيلولة دون صدور قرار بوقف إطلاق النار ورابع للحيلولة دون قبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة.
تدّعي إدارة بايدن أنها تختلف مع حكومة نتنياهو حول خططه الرامية لشن عملية برية واسعة النطاق على منطقة رفح التي يتكدس فيها حالياً ما يقرب من مليون ونصف إنسان، غير أنها في الواقع لا تعترض من حيث المبدأ على إقدام "إسرائيل" على هذه الخطوة، لكنها تشترط لإتمامها وجود خطة مقنعة لنقل المدنيين إلى أماكن آمنة وإعاشتهم.
ولأن حكومة نتنياهو لم تنجح حتى الآن في تقديم هذه الخطة، ادعى بايدن أنه قرر تعليق شحنة ذخائر كان يفترض أن تتسلمها "إسرائيل" هذه الأيام، وأنه ربما يقرر مستقبلاً إعادة النظر في أمر شحنات سلاح تالية. ويلاحظ هنا أن نتنياهو لم يأبه أبداً لهذا التهديد وقرر بالفعل اجتياح رفح، ولكن تدريجياً وعلى مراحل، بل إنه طلب فعلاً من ثلاثمئة ألف شخص مغادرتها.
لذا، يسود الاعتقاد بأن لدى "إسرائيل" ما يكفي من الذخائر التي تحتاجها لمواصلة الحرب. ولأن إدارة بايدن تعلم ذلك يقيناً، يرى البعض في تلك القصة مجرد لعبة لتوزيع الأدوار ومفيدة للطرفين. فهي تفيد بايدن لأن له مصلحة في احتواء المعارضة المتصاعدة من قاعدته الانتخابية، وتفيد نتنياهو الحريص في الوقت نفسه على إرضاء اليمين المتطرف والظهور بمظهر الزعيم القوي في مواجهة قوى خارجية تحاول فرض إملاءاتها على "إسرائيل"!.
وأياً كان الأمر، فلا جدال في أن الولايات المتحدة سقطت أخلاقياً ونهائياً في اختبار غزة، حين ربطت مصيرها ومستقبلها بمصير نظام عنصري توسعي يمارس الاحتلال الاستيطاني ولا يتورع عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
حسن نافعة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً