الثبات ـ منوعات
في الأول من أيار (مايو)، انطفأ الشاعر والقاصّ والسيناريست والروائي الأميركي الذي اشتهر بعوالمه النيويوركية التي تسكنها شخصيّات هامشية وتائهة وبانشغالاته وتأمّلاته الفلسفية في الموت والفقدان والهوية والذاكرة والمعنى. الأكيد أنّنا فقدنا أحد المعلّمين الكبار في فن السرد، ترك وراءه أكثر من أربعين عملاً تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة
«الموت جزء من الحياة، لا مفرّ منه. لكنّه ليس نهاية كل شيء. تبقى أعمالنا وذكرياتنا حيّة بعد رحيلنا»، وبول أوستر (1947 ــــ 2024) الذي رحل في الأوّل من أيّار (مايو) في منزله في بروكلين بعد معاناة مع سرطان الرئة، سيبقى في الذاكرة الأدبية بصفته أحد المعلّمين الكبار في فنّ السرد وأعظم كتّاب جيله بلا منازع. «نام» الكاتب والشاعر والسيناريت والمخرج الأميركي الذي كان يرى أنّ «النوم هو الانسحاب الأقصى من العالم»، بعدما صرّحت زوجته الكاتبة سيري هاستفيت قبل عام عبر صفحتها على الإنستغرام بأنّ زوجها يخضع للعلاج من السرطان، مضيفةً «إنني أعيش في مكان صرت أُسمّيه بلاد السرطان»، وتعني بذلك مدينة نيويورك. تظلّ نيويورك الحاضرة الأبرز في روايات أوستر ومسرحاً لأعماله التي تُرجم عدد كبير منها إلى العربية، فهو الذي كتب ودرس وأخرج شخصياتها الهامشية إلى السطح. بذلك، كان نقيض الصورة المرسومة عن تلك المدينة التي تظهر في كُلّ مكان كمدينة لامعة وبرّاقة. لقد كتب عن عالمها السفلي المسكون بالمُشرّدين والمهمّشين والتائهين والمرضى والجوعى الذين تقطّعت بهم السُبُل في مدينة لا تنام وناطحات سحابها تنافس السماء. وهذا ما برز في عمله الأضخم «ثلاثية نيويورك» وأعمال أخرى مثل «اختراع العزلة» و«موسيقى الصدفة».
«ثلاثية نيويورك» جعلته رمزاً لجيل أدبي جديد وكرّسته في المشهد العالمي
تيمات أساسيّة شغلت صاحب «رحلات في حجرة الكتابة» الذي كان يرى أنّ حاجتنا إلى القصص مثل حاجتنا إلى الطعام، هي: المصادفات، ولعبة الأقدار، والهوية، وغياب الأب والفشل والتاريخ... ففي باكورته الروائية «اختراع العزلة» (1982) المقسمة إلى جزءين، ساءل الكاتب ذاكرته العائلية محاولاً الإحاطة بشخصية أب متباعد حتى الغياب، فيما تأمّل في الجزء الثاني ثيمات مثل المصادفات والقدر والعزلة والعبث والفقدان. وإذا كانت باكورته قد حملت صورة أوّلية عن انشغالاته الفلسفية، فإنّ «ثلاثية نيويورك» (1986) هي التي جعلته واجهة جيل أدبي أميركي جديد، وكرّسته في المشهد الأدبي العالمي، خصوصاً باريس التي كنّ لها مكانة خاصة، بعدما عاش فيها من عام 1971 حتى 1974 وترجم أبرز أدبائها وشعرائها على رأسهم مالارميه وسارتر وجورج سيمنون. قدّم في «ثلاثية نيويورك» («مدينة من زجاج» و«أشباح» و«الغرفة المقفلة») تأويلاً ما بعد حداثي لأدب التحرّي والغموض، مستكشفاً تيمات فلسفية عدة وشكّلت نيويورك مسرحاً مكانياً لها، وصولاً إلى روايته الأخيرة «بومغارتنر» (2023) التي ساءلت الذاكرة، عبر تشريح علاقة أرمل بشبح زوجته، طارحاً سؤالاً: لماذا نتذكر لحظات معينة دون غيرها؟ حملت كتاباته خليطاً من العبثية والوجودية، هو الذي قال في مقابلة مع ستيفن كابين ودان إبستين، نشرت في مجلة «ثري إي أم» الأميركية (ترجمها إلى العربية محمد هاشم عبد السلام): «كثيراً ما يقول الناس إنّ لديّ إحساساً خطأً بالواقع، بمعنى أنّ الأمور التي أكتب عنها منافية للعقل والطبيعة وغير حقيقية. ودائماً ما زعمت أنني كاتب واقعي: نظراً إلى أن العالم، بالطبع، غريب إلى حد كبير عما يتصوره الناس عنه. ذلك أنّ ما يستجيبون إليه فعلاً ويتجاوبون معه هو الأساليب والتقاليد الأدبية التي نشأت وتوطدت منذ أواخر القرن التاسع عشر.