أقلام الثبات
قبل أن ينبهر المسيحيون الى حدود الدهشة، ويُسارع بعضهم لقرع الأجراس ابتهاجاً بما يحصل في بكركي، كما فعلوا عند تفاهم معراب عام 2016، عليهم قراءة الأمور من منظور الواقع اللبناني الحالي، والتبصُّر في النتائج المتوقعة لما اتُّفق على تسميتها "وثيقة بكركي"، سيما أنها ما زالت قيد الدرس والتمحيص والتعديل من مسودة الى أخرى، خصوصاً أن الدارسين والمُمحٍّصِين والمُعدِّلين هم من الصف الثاني الذين استعان بهم البطريرك الراعي لتحقيق الممكن، بعد استحالة جمع جماعة الصف الأول من القيادات المارونية.
وهذه الوثيقة متى أبصرت النور، ستكون مارونية جزئياً، نتيجة غياب تيار المردة عن الحضور في النقاشات وإعداد المسودات، وستكون مارونية صرف، نتيجة غياب باقي الفرقاء المسيحيين من روم كاثوليك وأرثوذكس وأرمن، حتى ولو كان بعض ممثلي القادة الموارنة ليسوا من الموارنة، خصوصاً ممثل "القوات" النائب فادي كرم، الذي ينتمي لحزب هيكليته عسكرية مطلقة، وكائناً ما كانت النقاشات الحوارية في بكركي فإن مرجعيته الوحيدة هو "القائد"، "المرتاح على وضعه" في معراب، وكذلك الأمر بالنسبة للنائب جورج عطالله من التيار الوطني الحر، المُلزم بنقل الأفكار الى رئيس التيار الذي يعود له اتخاذ اللازم، وبين قائد "القوات" ورئيس التيار ليس هناك أي "حائط عمار"، وبالتالي فإن تكليف أي فرد أو وفد حزبي من الصف الثاني في مسألة حوارية كبرى، هو من حيث الشكل قاصر عن الوصول إلى تفاهم واضح مسيحي مسيحي، فكيف لوثيقة لا إجماع عليها على مستوى القيادات المارونية أن تسلك طريق النقاش مع الشريك المسيحي الآخر، ومن ثم مع الشريك المسلم، خصوصاً أن اجتماع الصف الثاني من القوات والتيار والكتائب والأحرار و”وطن الرسالة” و”حركة الاستقلال” يقابله واقع أن زعيم تيار المردة له في الشارع الإسلامي مريدون، وما زال المرشح الأوحد لبعبدا، على الأقل لدى الثنائي الشيعي، ولدى الحريرية السياسية، التي أولمت له على مأدبة خبز وملح في بيت الوسط دوناً عن سواه.
وبمقدار ما أن الاجتماعات لمناقشة "وثيقة بكركي" قاصرة في الشكل لجهة التمثيل الطائفي والسياسي، فهي في المضمون جاءت شاملة لكل الأزمات التي يعاني منها لبنان، وتناولت الوجود المسيحي وكل المخاطر التي يراها المؤتمرون مهدِّدة له، سواء كانت الأسباب آنية طارئة أو متراكمة، واستعرضت الوثيقة كل ما يُحيط بالميثاق، ولو أن المجتمعين أغفلوا أن التعداد الديموغرافي حصل لآخر مرة عام 1932، وأن الميثاق وزَّع عُرف الرئاسات والمحاصصة الوظيفية وفق هذا التعداد، وما تراه بعض القيادات المسيحية ميثاقياً ممنوعٌ المساس به، يراه بعض الشركاء في الوطن أنه من الماضي، واحترام هؤلاء الشركاء للميثاق ينبع من عدم الرغبة في الخوض بأمور يلزمها مؤتمر تأسيسي، حيث لن يكون فيه الكباش فقط مسيحياً إسلامياً، بل بين الطوائف ذات الديانة الواحدة أيضاً.
ملفات كبيرة تتضمنها وثيقة بكركي، ولأنها كذلك، يُخشى أن يكون توقيتها خاطئاً، لأنها تجاوزت مسائل التهديد الوجودي للمسيحيين والتغييرات الديمغرافية وبيع الأراضي والهجرة، وأزمة اللاجئين والنازحين، وصولاً إلى الغبن في المناصفة على صعيد وظائف الدولة، لكن بلوغ الوثيقة مستوى البحث بسلاح المقاومة وتطبيق القرارات الدولية في هذه الظروف، حيث لبنان على شفا حرب مع العدو الصهيوني، فهذا ما يجعل من وثيقة بكركي في القضايا الوطنية الكبرى موضوعاً إنشائياً، خصوصاً في ما يرتبط بسلاح المقاومة وتطبيق القرارات الأممية 1559، 1680 و1701، إضافة الى مبادرة السلام العربية عام 2002، حول بسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها وحماية حدودها وحصر هذه المهام بالجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية، إضافة الى تفعيل بنية الدولة عبر الالتزام الأخلاقي بمواجهة كل أنواع الفساد وتنفيذ الإصلاحات البنيوية، وفي مقدمتها تطبيق اللامركزية الإدارية، ووضع خطط سياسة عامة تحمي لبنان من مخاطر التوطين وما يتصل بها من أزمات اللجوء والنزوح.
وكثيرة هي طاولات الحوار التي عُقدت في بكركي وخارجها، وتناولت الإستراتيجية الدفاعية وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني، لكن كل هذه الحوارات كانت وستبقى عقيمة، ما دام الجيش اللبناني يتلقى المساعدات والدعم على شكل ناقلات جند وأسلحة خفيفة ونواضير وملابس، وممنوعٌ عليه أميركياً و"إسرائيلياً" امتلاك الطائرات والصواريخ وكل ما يهدد أمن الكيان الصهيوني، فكيف له أن ينفرد بمهام الدفاع وحماية الحدود وسط هذا الحصار غير المرئي عليه، وهو لا يجني من بعض اللبنانيين سوى الدعم الكلامي غير المسؤول، بل بات "قميص عثمان" كل القوى السياسية المناهضة للمقاومة، إن لم نقُل القوى العميلة التي تكاد تسكن أسفل أدراج السفارات.
بالعودة إلى بكركي ووثيقتها المتوقعة، ذكرت أكثر من وسيلة إعلامية أن المطران انطوان أبي نجم هو صاحب مبادرة جمع الأحزاب المسيحية تحت سقف بكركي، بناء لطلب من قيادي "قواتي" منذ أكثر من سنة، وارتضى الرجل أن يلعب دور المطران يوسف بشارة الديني/ السياسي، وجمع حوله نخبة من الكفاءات الفكرية لإعداد هذه الوثيقة ولكن، عندما طالب النائب جبران باسيل خلال احتفالية التيار الأخيرة، أن تجمع بكركي القيادات المسيحية، جاء الرد من "القوات" بالرفض، مطالباً باسيل بنزع سلاح حزب الله أولاً، وكأن هذا السلاح عبارة عن حمولة شاحنة جاهزة للتحميل عندما تقرر معراب أو سواها ذلك!
في الخلاصة، لا حاجة لانتظار صدور "وثيقة بكركي"، التي تتبدل مسوداتها ويتمّ تنقيحها لتغدو مقبولة لبنانياً، لأنها غير مقبولة مسيحياً قبل إخراجها الى ساحة الوطن، وتخفيض حجم التمثيل الماروني والمسيحي الحواري في بكركي، من قيادات الصف الأول إلى الصف الثاني، يعني بالعنوان العريض، انحدار التصنيف السياسي للمسيحيين وطنياً الى الدرجة الثانية بوجود بعض المتقدمين في الصفوف الأولى الذين لا تجمع بينهم سوى الأحقاد، ويرتكب بعضهم الخطايا المميتة بحق الوجود المسيحي.