الثبات ـ دولي
على الرغم من وجود دول تتخذ مواقف مماثلة مثل أيرلندا والنمسا وكوستاريكا، إلا أن سويسرا لا تزال صاحبة المكانة الفردية الأقدم والأقوى في مسألة الحياد على مستوى العالم.
يعد الحياد ركيزة محورية في السياسة الخارجية السويسرية، وهذا الموقف يمنع هذا البلد الواقع في قلب أوروبا من المشاركة في الحروب والنزاعات المسلحة، وكذلك الانضمام إلى التحالفات العسكرية.
بوادر حياد سويسرا تعود جذورها إلى عام 1515، حين منيت الكونفدرالية السويسرية بهزيمة ساحقة على يد الجيش الفرنسي بقيادة الملك الجديد في ذلك الوقت فرانسوا الأول في معركة "مارينيانو" بالقرب من مدينة ميلانو الإيطالية.
عقب تلك الهزيمة التي توصف بأنها كانت دموية والأكثر تدميرا بالنسبة للسويسريين على الإطلاق، تخلت الكونفدرالية السويسرية عن سياسات التوسع، واختارت تجنب الصراعات في المستقبل للحفاظ على بقائها.
خلال مؤتمر فيينا في عام 1815، وقعت الأطراف المشاركة إعلانا رسميا يؤكد "حياد سويسرا الدائم" داخل المجتمع الدولي، وكان ذلك في أعقاب حروب نابوليون التي هزت بعنف أوروبا.
المؤرخ أوليفييه ميولي يرى أن الدول الأوروبية الأكثر قوة فرضت في تلك المناسبة الحياد على سويسرا، لأنها كانت مصممة على عزل فرنسا، فما مدى هذا الحياد؟ وما هي أفاقه المستقبلية؟
هذه الدولة الأوروبية الصغيرة التزمت لعدة قرون بسياسة الحياد خلال النزاعات الإقليمية والدولية المسلحة، وفي عام 1907 أضفت الطابع الرسمي على هذا النهج بتوقيع اتفاقية لاهاي التي تنظم حقوق والتزامات الدول المحايدة في حالة الحرب.
سويسرا حافظت على موقف الحياد خلال الحرب العالمية الأولى، وحينها قامت باستنفار جيشها واستقبلت اللاجئين لكنها رفضت أيضا الانحياز عسكريا إلى أي من الطرفين.
لاحقا في 13 فبراير عام 1920، اعترفت عصبة الأمم رسميا بحياد سويسرا التقليدي، واستقر مقرها في جنيف.
التحدي الأكبر للحياد السويسري كان خلال الحرب العالمية الثانية، حين وجدت سويسرا نفسها محاطة بقوى المحور، في ذلك الوقت العصيب حافظت سويسرا على استقلالها من خلال الوعيد بالرد في حالة تعرضها للغزو، فيما استمرت في التجارة مع ألمانيا النازية، وهو قرار اثار جدلا بعد انتهاء تلك الحرب المدمرة.
مظاهر التغير في مفهوم الحياد السويسري:
بعد نهاية الحرب الباردة، حدث تغيير في مفهوم الحياد، وشاركت سويسرا في تطبيق العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق خلال حرب الخليج في عام 1991.
التطور الثاني في هذا الاتجاه أن سويسرا انضمت في عام 1996 إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لحلف شمال الأطلسي، كما أنها أرسلت في عام 1999 متطوعين غير مسلحين لدعم جهود حفظ السلام في كوسوفو.
وفي تطور آخر، صوت الناخبون السويسريون في استفتاء أجري في عام 2001 بفارق ضئيل لصالح تسليح الأفراد العسكريين السويسريين المنتشرين في بعثات السلام، وفي عام 2002 انضمت إلى الأمم المتحدة.
على الرغم من أن سويسرا ليست عضوا في الناتو، إلا أنها تتعاون مع الحلف في إطار "الشراكة من أجل السلام".
حياد سويسرا الطويل لا يمنعها من الاحتفاظ بجيش مناسب للأغراض الدفاعية، وتجري الخدمة العسكرية بدوام جزئي لجميع الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما.
الجيش الكونفدرالي السويسري يضم عددا قليلا فقط من الأفراد العسكريين النظاميين، وينص دستور البلاد على الخدمة العسكرية الإجبارية للرجال، بينما هي طوعية بالنسبة للنساء.
أفراد الجيش السويسري يحتفظون بأسلحتهم في منازلهم، ويثير هذا الأمر داخل المجتمع الجدل بصورة منتظمة وذلك على خلفية حدوث جرائم قتل أو انتحار بواسطة هذه الأسلحة.
الرجال السويسريون الذين لا يرغبون في أداء الخدمة العسكرية، يمكنهم بدلا من ذلك أداء خدمة مدنية، إلا أن مدتها أطول من الخدمة العسكرية مرة ونصف.
حياد سويسرا بين الثبات والتحول:
وبشأن المستجدات الأخيرة، ساندت سويسرا وهي دولة ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي منذ البداية العقوبات الأوروبية التي فرضت على روسيا على خلفية العملية العسكرية الجارية في أوكرانيا.
بيرن واصلت هذا النهج الي يتعارض مع مفهوم الحياد، نهاية العام الماضي بتجميد أصول مالية روسية والالتحاق بحزمة عقوبات أوروبية فرضت قيودا على 61 شخصا و86 شركة ومؤسسة.
هذا الموقف السويسري دفع نائب مدير إدارة الإعلام والصحافة بوزارة الخارجية الروسية، إيفان نيتشايف منتصف العام الماضي إلى التعليق بالقول إن هذا البلد فقد حياده.
وفي المناسبة ذاتها، قال سفير روسيا لدى بيرن سيرغي غارمونين، في تصريح بهذا الشأن لصحيفة سويسرية إن "روسيا لم تهدد الاتحاد مطلقا. على العكس من ذلك، لعبت بلادنا دورا حاسما في تشكيل الدولة السويسرية، وبعد نتائج مؤتمر فيينا لعام 1815، أصبحت روسيا، إلى جانب القوى العظمى الأخرى، ضامن حيادها الأبدي.. واليوم لا ينبغي أن يكون لدى السويسريين أي مخاوف بشأن نوايا بلدنا، لكن من الواضح أن تقارب الاتحاد مع الناتو، الذي تدفعه بعض القوى الخارجية والداخلية إليه، لن يفيدنا بشكل واضح".