أقلام الثبات
"افتكرنا الباشا باشا"، هي مقولة لبنانية تتغنى بهذا اللقب، دون إدراكٍ ربما لمعنى كلمة باشا بالتركية، والتي ترجمتها "خادم السلطان" وهي تماماً كما كلمة خزمتشي، والفارق بين التعبيرين، أن الباشا كان يجلس عند قدمي السلطان، يوافق على كل ما ينطق به "جلالته"، ويدغدغ له أصابع القدمين تحبباً ويلثم حذاءه تملقاً، ولذلك كان الأقرب الى قلب السلطان من الباشاوات، هو الأقرب لقدميه في الجلسات، بينما الخزمتشي، فهو الخادم العادي الذي يتولى تأمين المأكل والمشرب في المجالس.
كثيرة هي الألقاب اللبنانية الموروثة عن العثمانيين، ومثلما كان الباشا يحظى بالسلطة نتيجة رضى السلطان، كذلك كانت ألقاب الشيخ والبيك والأفندي - وجميعها عثمانية المنشأ - كانت تُمنح لكل وجيه أو إقطاعي في هذه المقاطعة أو تلك، لأنه صاحب سلطة ويستطيع جباية الضرائب من الفلاحين لصالح الخزينة العثمانية، فيما كانت كلمة بلطجي تعني تاجر الملح، الذي كان يتولى تهريب البضائع داخل أكياس الملح لأن الملح كان معفياً من الضريبة.
خلاصة ما أوردناه أعلاه، أنه ليس هناك من ألقاب في لبنان تُشرٍِف أصحابها لو عرفوا أصل اللقب الذي به يفتخرون ويُفاخرون.
وبما أننا في لبنان استوردنا الكثير من تركيا، كان على جماعة السلطة من رتبة باشا حتى رتبة خزمتشي، أن يتوقعوا استيراد الموجة الأخيرة من النازحين السوريين الذين غادروا تركيا بالآلاف على دفعتين: الدفعة الأولى بعد وقوع الزلزال في جنوب تركيا وشمال سوريا في شباط الماضي، وغالبيتهم الساحقة محسوبة على ما تسمى المعارضة، وبالتالي تدفقوا من الشمال السوري الى الشمال اللبناني وانتشروا في لبنان بمساعدة باشوات السمسرة والتهريب من اللبنانيين، ومن السوريين المحميين من لبنانيين، ثم الدفعة الثانية جاءت بعد الإنتخابات التركية، التي كان التنافس فيها بين كمال كليتشدار أوغلو الذي كان برنامجه الإنتخابي يتمحور حول طرد النازحين من تركيا فوراً، وبين الرئيس أردوغان الذي استجاب للشارع التركي وبدأ التضييق عليهم حتى ترحيل الآلاف منهم إلى الشمال السوري المُدمَّر، وكان من المتوقع انتقالهم الى لبنان عبر المعابر غير الشرعية، بالتواطوء مع متعهدي تهريب في لبنان، تتراوح ألقابهم بين باشا وخزمتشي من أجل الأخضر الأميركي حتى لو احترق الأخضر واليابس في هذا الوطن.
نعم، قبل أن تتحول كل بلدة لبنانية وكل حي في مدينة الى مسرح صراع ومصارعة عنصرية بالعضلات والسكاكين بين لبنانيين وسوريين، على الشعب اللبناني أن يعي بأن شرائح من اللبنانيين هي التي أوصلت الأمور الى هذه الكارثة من أجل مصالحها الرخيصة، منذ كان باشوات لبنان يمسحون جباههم بأدراج عنجر ويلثمون الحذاء والجزمة من أجل وزارة ونيابة، وصولاً الى تسليم مفتاح بيروت الى الغير، مروراً بفضائح السرقات المشتركة في زمن بنك المدينة، وكل أنواع الصفقات المشبوهة التي تعلمها السوري من اللبناني.
أمثلة نضعها في حضرة الضمائر اللبنانية الواعية، عن سبب زيادة عدد المقيمين السوريين في لبنان من مليون الى مليونين ومئتي ألف، أي ما يعادل نصف سكان لبنان، وسبب تحوُّل اليد العاملة السورية من قطاع الزراعة وأعمال البناء الى كافة القطاعات دون استثناء، وتسهيل العمل لهم دون إجازة عمل وحتى دون إقامة شرعية، بفضل باشوات الحكومات المتعاقبة وغياب الأجهزة الأمنية لأكثر من سبب عن القيام بواجباتها لغاية اليوم، وفشل تشكيل لجنة على الأقل للتواصل مع "الأمم" وتعداد المتواجدين على الأراضي اللبنانية ويتقاضون مساعدات شهرية بصفتهم نازحين!!!
وأسئلة نضعها في حضرة ضمائر الشعب اللبناني: أليست مكابرة "المعلِّم" اللبناني ومبالغته في التسعير، هي التي أجبرت الناس على الإستعاضة عنه بالسنكري السوري وبالكهربائي والدهّان والبلَّاط وسواهم؟
أليس صاحب الملك اللبناني هو الذي اقتلع المستأجر اللبناني من شقة ليؤجرها للسوريين تحت ذريعة أنه قادر على طردهم واستبدالهم بسوريين آخرين ساعة يشاء؟
أليس اللبناني هو من استفاق مؤخراً بعنصرية لا نفع منها وعلى حقدٍ مجاني بلا طائل، لمقاطعة العمالة السورية كلامياً، ويُناضل على مواقع التواصل ضد كل محل سوري وكل عامل دليفري سوري، وما زال فعلياً يشتري من أقرب محل له ولو كان مالكه سوري يعمل بدون ترخيص وعامل الدليفري سوري؟!
كفى عنصرية، وكفى استعراضات مجانية على مواقع التواصل وفي الشوارع، وكفى عدم مسؤولية في محاسبة بلديات غائبة عن الوعي، وسط زحف سكاني نازح ضمن نطاقها، وعمالة مُنافِسة ضمن نطاقها، ومحال غير قانونية فُتِحت ضمن نطاقها، وإذا كانت رُعاة مؤسساتنا الحكومية باشاوات، ولكل باشا بابه العالي الخارجي وسلطانه الأعظم، سواء عبر سفارة أو موفد ديبلوماسي، وتلعق الدولار عن حذاء أو شحاطة، فإن شريحة كبيرة جداً من شعبنا اللبناني في مواقع مسؤولية، تعمل خزمتشية لدى هذا وذاك من الباشاوات وسقفها الأعلى فُتات موائد الدواوين من تحت أقدام السلطان.