الثبات ـ دولي
في أوج استشراء الفاشية بإيطاليا والنازية في ألمانيا، ظهر سياسي بريطاني من عائلة نبيلة وتقمص الشخصيتين معا، وكان بمثابة "هتلر" البريطاني على الرغم من أنه فشل في الوصول إلى السلطة.
السياسي الذي يدور الحديث عنه هو "أوزوالد موسلي"، حيث أسس "اتحاد الفاشيين البريطانيين" في هذا البلد، الذي يقدم نفسه على أنه صاحب تقاليد ديمقراطية عريقة ومنظومة سياسية مستقرة، إلا أن هذه الحركة السياسية الفاشية تمكنت من استقطاب أعداد كبيرة من المؤيدين بما في ذلك من الأوساط النبيلة، وأعلنت في تلك الفترة الحرجة للغاية عن نفسها كقوة سياسية كبيرة.
من يكون هتلر البريطاني؟
أوزوالد موسلي، ولد في 16 نوفمبر 1896 لعائلة نبيلة وعريقة، كان ممثلوها منذ منتصف القرن السابع عشر يحملون لقب بارون، وكان أسلاف موسلي من كبار ملاك الأراضي والتجار، حيث امتلكوا عقارات في مقاطعات مختلفة من إنجلترا وخاصة في مانشستر.
بعد تخرجه من مدرسة وينشستر الخاصة المتميزة، التحق أوزوالد موسلي بمدرسة "ساندهيرست" العسكرية، ذات التقاليد العريقة، ومضى إلى الجبهة الغربية في فرنسا، في يناير من عام 1914 بعد أن اجتاز دورة تدريبية مكثفة في أكتوبر من نفس العام، ضمن قوات المشاة البريطانيين، كما شارك في العمليات القتالية كضابط في سلاح الفرسان والمشاة، كطيار استطلاع أيضا.
أصيب موسلي في ربيع عام 1915 أثناء طلعة جوية تدريبية، بجروح خطيرة في ساقه وغادر خط المواجهة، ليجري تصنيفه بعد فترة طويلة من العلاج على أنه غير لائق للخدمة العسكرية، ثم عمل في المدة المتبقية من الحرب العالمية الأولى بوزارتي الشؤون الخارجية والأسلحة، فيما أصبح من أصحاب الثروات الكبيرة بعد وفاة جده في عام 1916.
في خريف عام 1918 ترشح في الانتخابات البرلمانية عن حزب المحافظين وأصبح أصغر عضو في مجلس العموم البريطاني، إلا أن سياسة المحافظين لم تعجبه فانتقل إلى المعارضة في وقت لاحق بصفته نائبا محافظا مستقلا.
كانت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وزادت ديون البلاد 12 مرة، وتحولت من دائن للولايات المتحدة إلى مدين لها، ودخل اقتصادها في فترة ركود طويلة، فزادت خيبته من المحافظين مطلع عام 1924، وانتقل موسلي إلى حزب العمل وأصبح عضوا نشطا في جناحه اليساري المتطرف.
في عام 1929، فاز حزب العمل في الانتخابات البرلمانية العامة، وانضم موسلي، الذي ذاع صيته بقدرته الخطابية، إلى الحكومة، كما حصل على منصب وزير صغير وأصبح مستشارا لدوقية لانكستر، حيث شملت مهامه المساعدة على حل مشاكل البطالة.
زاد استفحال مشكلة البطالة في بريطانيا أوائل عام 1930، وحين فشل مقترح تقدم به لتشكيل حكومة من خمسة وزراء من دون حقيبة تتمتع بسلطات واسعة ومستقلة عن البرلمان، قرر موسلي تشكيل تنظيمه السياسي الخاص، وأسس في مارس 1931، الحزب الوطني الذي كان بمثابة مرحلة انتقالية لمنظمته الفاشية اللاحقة.
شارك بحزبه الجديد في نفس العام، في الانتخابات البرلمانية العامة بأربعة وعشرين مرشحا، لكنه تعرض لهزيمة ساحقة ولم يفز بأي مقعد، زادت خيباته ومرارته فزار إيطاليا مطلع عام 1932، والتقى بموسوليني، زعيم الفاشية هناك، وقرر المضي على خطى قادة الفاشية والنازية وتأسيس حزبه الفاشي الخاص.
انتشرت بسرعة فروع "اتحاد الفاشيين البريطانيين" في أرجاء البلاد، وشرعت أقسامه في القيام بأعمال الدعاية والتحريض اليومية بين السكان، وأصبحت صحيفة "القميص الأسود" الجهاز الرئيس لإعلام الفاشيين البريطانيين.
تمكن موسلي من جذب العديد من المشاهير إلى قيادة الاتحاد البريطاني للفاشيين، وتعاظم خطر الحركة ما دفع بممثلي شرطة العاصمة لندن وقوات الشرطة الخاصة وجهاز الأمن الداخلي "آم آي – 5" في 23 نوفمبر 1933 إلى الاجتماع والاتفاق على فرض مراقبة على أنشطة الفاشيين البريطانيين، بما في ذلك تسرب عملاء إلى صفوفه.
وعلاوة على الدعم المتأتي من النشاطات الصحفية، بدأ موسلي في تلقي مساعدات مالية كبيرة، وكان من رعاة حركته الفاشية الرئيسيين، اللورد راتيمير، وهو ثري كان يسيطر على العديد من وسائل الإعلام، واللورد إنشكيب، الذي كان يمتلك 24 شركة بما في ذلك بنك وستمنستر، فضلا عن دعم مالي منتظم كان يصل إلى الاتحاد البريطاني للفاشيين، من الفاشيين الإيطاليين بقيادة موسوليني.
كان فاشيو بريطانيا بزعامة موسلي يدعون إلى عدم دخول بريطانيا في حرب مقبلة ضد ألمانيا، التي كان موسلي قد نسج بمساعدة زوجته الثانية، علاقات حميمة مع نظامها النازي ومع هتلر.
بعد أن فشلت محاولة قام بها مع حشود من أنصاره لاقتحام حي في شرق لندن، يسكنه مهاجرون يهود في 4 أكتوبر 1936، توقف موسوليني عن إرسال الدعم المالي إليه بعد أن خاب أمله فيه، فتحول إلى هتلر وطلب الدعم منه.
بعد اندلاع الحرب في غرب أوروبا ربيع عام 1940، ووصول ونستون تشرشل إلى السلطة في بريطانيا، تم القبض على موسلي ومعظم قادة اتحاد الفاشيين البريطانيين، وحظرت نشاطاته.
بعد أن خف خطر قيام النازيين بغزو الجزر البريطانية، تم إطلاق سراح العديد من أعضاء الاتحاد البريطاني للفاشيين المعتقلين، وفي نوفمبر من عام 1943، أطلق سراح زعيمهم موسلي بسبب سوء حالته الصحية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاد موسلي إلى نشاطاته السياسية، وأسس في عام 1948 الحركة الوحدوية بمشاركة أكثر من خمسين منظمة يمينية راديكالية، ليصبح أحد القادة اليمينيين المتطرفين الكبار في بريطانيا وأوروبا الغربية، حيث كان يدعو إلى توحيد القارة وإقامة حكومة لسائر أوروبا، وتسليح بريطانيا بمستوى الولايات المتحدة، كما دافع عن فكرة التدخل النشط للدولة في الاقتصاد وعارض تدفق المهاجرين الملونين إلى البلاد.
حاول موسلي مجددا في عام 1959، من دون جدوى، الترشح للبرلمان، وبعد ثلاث سنوات، حاول تأسيس حزب وطني لليمين الأوروبي، إلا أن المشروع باء بالفشل. بعد ذلك بوقت قصير، تقاعد واستقر في فرنسا حيث توفي في 3 ديسمبر 1980، عن عمر ناهز 84 عاما.