أقلام الثبات

بصرف النظر عن الصياغة التي اعتمدها الرئيس سعد الحريري في كلمته الوداعية التي استودع فيها لبنان، والتحركات الشعبية المتواضعة التي رافقتها في بعض أحياء الشوارع، بدا الحاضرون من جماعة "المستقبل" في بيت الوسط، وكأنهم يتوقَّعون إعلان نهاية مسيرة سياسية ممنوعٌ عليها إقليمياً وداخلياً أن تستمرّ، لأن الرهان على شخص زعيم المستقبل لمواجهة سلاح المقاومة من السراي قد سقط، منذ استُقيل الرجل في خريف العام 2017 من الرياض، بوشاية صريحة مُعلنة من "الحاج سمير جعجع" الذي جَزَمَ أمام السعوديين بعدم قدرة الحريري على تلك المواجهة، وفور تحرير الحريري من الأسر وعودته الى بيروت والعودة عن استقالته، كُتِبت له سعودياً تذكرة الذهاب بلا إياب من الحياة السياسية، ولو أن ترحيله استغرق أربع سنوات دفع لبنان المزيد من الأثمان خلالها.

اللافت في الموقف السعودي لإيجاد وكيل مكان الأصيل، أن المملكة نفضت يدها من تسمية السُنِّي الذي تراه مناسباً للخلافة، ربما لأن الشقيق بهاء تُركي الإنتماء أكثر مما هو سعودي، ولأن كل الذين داروا في فلك بيت الحريري منذ زمن قريطم حتى عصر بيت الوسط لا وزن لهم، سوى أنهم "حجارة شطرنج" بلا أحجام شعبية أو سياسية على امتداد رُقعة اللعبة المٌترامية من لبنان الى وِسعِ الإقليم.

خَلَط رحيل سعد الحريري أوراق الشركاء والحلفاء والوكلاء، وقد يكون الرئيس نجيب ميقاتي الأكثر وزناً على المستوى السُنِّي من كل وَرَثة ما كانت تُسمَّى "الحريرية السياسية"، خصوصاً أن العائلة حالياً ممثَّلة داخلياً بالعمَّة بهية الحريري دون سواها، ونجلها أحمد غير مؤهل شعبياً حتى لوراثة زاروب في مدينة صيدا، والسيف الخشبي الذي كان يحمله بإسم سعد الحريري وتيار المستقبل، ليس أكثر من دُمية أو "كشاشة عصافير" في ساحة التعقيدات السياسية على الأرض اللبنانية، وإرث رفيق الحريري أقفل عليه الوريث الأصلي باب بيت الوسط الى الأبد وغادر لتأمين مستقبله الشخصي بعيداً عن أي ارتباط داخلي بما فيه تيار المستقبل.

وإذا كانت حسرة وليد جنبلاط هي الأبرز بين الشركاء على خسارة  سعد الحريري، فإن رابح المباراة بالضربة القاضية السعودية الإفتراضية هو سمير جعجع، لكن حقيقة واقع الأرض في الشارع السني فور اعتزال الحريري، أن هناك أصواتاً شعبية اعتبرت غدر جعجع بأبرز شخصية سنِّية لا يقلّ عن تهمة قتله الرئيس الراحل رشيد كرامي، وارتفعت أصوات التهديد والوعيد بحق جعجع من عكار الى البقاع مروراً ببيروت، مما يؤشِّر أن غضب الشارع السُنِّي عليه سيمنعه من قطف الموسم الإنتخابي القادم، وأنه آخر مَن يحق له الحديث بشؤون السنَّة مهما كان الدعم السعودي المادي له كوكيل عن تفليسة سعد الحريري السياسية، والإنتخابات القادمة سوف تُثبت أن الحرب السُنِّية على سمير جعجع في عكار وطرابلس وبيروت والبقاعين الأوسط والغربي سوف تقطع له آخر خيوط أوهامه بكتلة نيابية وازنة.

وإذا كانت هناك من "إنجازات" محسوبة لبيت الحريري، أنهم "لبننوا" أهل السُنَّة في لبنان، واستعادوهم من الناصرية العروبية الى الحضن اللبناني، فإن طائفة بهذا الحجم لا تنتظر شهادات من أحد، ولديها النُخب الكافية للحلول مكان "المستقبليين" لمرحلة ما بعد سعد الحريري، وهُم حكماً ليسوا بحاجة لمَن يُفتي لهم مبادىء عروبتهم الحقيقية ولا لبنانيتهم النقيَّة، وهُم حتماً حتماً حتماً، مع ثلاثة طبعاً، وثلاثة أكيد، ليسوا بحاجة لرعاية شخص مثل سمير جعجع...