أوكرانيا تجدد الحرب الباردة ـ عدنان الساحلي

الجمعة 31 كانون الأول , 2021 11:21 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

فتحت الإتصالات المباشرة الجارية بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتن، حول النزاع في أوكرانيا، طاقة أمل بإنقاذ العالم من أزمة خطيرة، تشبه في بعض أوجهها أزمة الصواريخ الكوبية في آب عام 1962، التي كادت أن تؤدي لقيام حرب نووية. لكنها فتحت أبواب "الحرب الباردة" على مصراعيها.

الأزمة الحالية معكوسة هذه المرة. ففي كوبا في تلك الحقبة وفي أعقاب عمليات فاشلة للولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي، شرعت حكومتا كوبا والاتحاد السوفيتي، ببناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، توفر الإمكانية لضرب معظم أراضي الولايات المتحدة. بدأ ذلك بعد نشر صواريخ "ثور"الأميركية في بريطانيا، سنة 1958. ونشر صواريخ "جوبيتر" في إيطاليا وتركيا سنة 1961، حيث بات بامكان أميركا القدرة على إستهداف موسكو بأكثر من 100 صاروخ ذي رأس نووي.

تفجرت تلك الأزمة في 8 تشرين الأول 1962. ووصلت ذروتها في 14 منه، عندما أظهرت صور استطلاع التقطت من طائرة تجسس أميركية، عن وجود قواعد صواريخ سوفيتية نووية تحت الإنشاء في كوبا. وبعد تصعيد كلامي وتهديدات وإنذارات متبادلة بين الجبارين النوويين، إتخذ الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف، قرارا بسحب الصواريخ الروسية من كوبا، مما دفع بحليفه الزعيم الكوبي فيدل كاستروا إلى وصفه بناقص الرجولة. 

خطب الرئيس  الأميركي جون كينيدي حينها موجهاً إنذارأ للسوفييت قائلاً: «ستكون سياسة هذه الأمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي، هجوما على الولايات المتحدة. وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي». وانتهت الأزمة في 28 تشرين الأول 1962، عندما توصل كلّ من الرئيس الأميركي جون كينيدي وأمين عام الأمم المتحدة يو ثانت، إلى اتفاق مع السوفيت لإزالة قواعد الصواريخ الكوبية، شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا. وأن تقوم بالتخلص بشكل سري من الصواريخ البالستية المسماة بجوبيتر (PGM-19 Jupiter) وثور (PGM-17 Thor).

وأزال السوفييت بعد أسبوعين من الاتفاق، جميع أنظمة الصواريخ ومعدات الدعم من كوبا. وانتهى رسمياً الحظر على الأخيرة يوم 20 تشرين الثاني 1962. وفي أيلول 1963 تم إبطال مفعول جميع الأسلحة الأميركية في تركيا. ثم حدث كنتيجة لمفاوضات إضافية، إنشاء الخط الساخن بين موسكو وواشنطن. لكن الحرب الباردة إستمرت بين الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين، من جهة؛ والإتحاد السوفياتي وحلف وارسو، من جهة ثانية، حتى إنهيار الإتحاد المذكور وحلف وارسو، في ثمانينيات القرن الماضي وتسيّد الأميركان بمفردهم على العالم. إلى أن جاء فلاديمير بوتن على رأس الإتحاد الروسي المتجدد، وبدأ منذ العام 2014، في جورجيا وأوكرانيا وسورية يستعيد دوراً عسكرياً روسياً يواجه الإستفراد الأميركي في إدارة العالم. 

الآن إنعكست الصورة، فروسيا هي التي تشكو من وصول جيوش الغرب إلى بواباتها. وهي أعلنت على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، أنه "لا يستبعد أن هناك رغبة للدول الغربية، لتأجيج المشاعر العسكرية وشن حرب صغيرة في أوكرانيا، ثم إلقاء اللوم علينا وفرض عقوبات جديدة، لكبح قدراتنا التنافسية".

ولفت إلى أن الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف شمال الأطلسي، تضخ الأسلحة وتتفاخر بأنها زودت أوكرانيا، منذ عام 2014، بالذخيرة والأسلحة وأنظمة هجومية بقيمة 2,5 مليار دولار". وأنه "في تشرين الأول وتشرين الثاني (الماضيين) وردت تقارير عن تسليم أوكرانيا أسلحة بما يقرب من مائة مليون دولار؛ وأنظمة جافلين وأنظمة مضادة للدبابات وذخيرة". 

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، إن حجم التواجد العسكري الأجنبي في أوكرانيا في تزايد من عام لآخر. وأن "من بين هذه القوات يتواجد حاليا بشكل مباشر 4000 عسكري من الولايات المتحدة الأميركية".

ولفتت إلى أن أوكرانيا تستعد لحل النزاع في دونباس بالقوة، بدلا من وضع حد للحرب الأهلية المستمرة منذ 8 سنوات. وأن أوكرانيا اعلنت زيادة الميزانية العسكرية للبلاد، في العام المقبل، لما يقرب 12 مليار دولار بنسبة 20 بالمئة، وتخطط لشراء أسلحة هجومية".

هي الشكوى ذاتها تتكرر، فالروس يعتبرون أن أي وجود عسكري غربي في أوكرانيا، أو أي تعزيز لقوات الأخيرة، الملتحقة بالدول الغربية وعلى راسها أميركا، هو خطر على الداخل الروسي. فأوكرانيا هي إحدى بوابات روسيا. وهي من الدول التي تشكل عازلاً طبيعياً يحمي البر الروسي، الذي ليست له موانع طبيعية جغرافية تحميه من توغل أي غزو محتمل من ناحية الغرب، على غرار غزو جيوش نابوليون بونابرت الفرنسي؛ وأودولف هتلر الألماني، لأراضي روسيا في حقب سابقة.

لذلك، يرى الروس أن أمنهم يقتضي منع أي توسيع للحلف الأطلسي شرقاً. ووضع حد للنشاطات العسكرية الغربية في محيط روسيا. وهي منطقة تعتبرها موسكو دائرة نفوذ لها. وترى أن دعم الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، بمثابة تهديد مباشر لأمنها ومصالحها. فيما إرتفعت الأصوات في الغرب، تحذر من حشد عسكري روسي ضخم على الحدود الروسية الأوكرانية، كمقدمة لما تتوقعه إجتياحاً روسياً قد يحدث بين يوم وآخر. مما دفع بالرئيس الأميركي إلى توعد نظيره الروسي، بعقوبات "لم يشهد مثلها من قبل" في حال اجتياح أوكرانيا.

من جهتها، تنفي روسيا أنها تشكل تهديدا لأوكرانيا، رغم أنها اجتاحتها في 2014 واستعادت منها شبه جزيرة القرم. وهي تؤكد أنها تريد أن تحمي نفسها من "عداء الغربيين" الذين يدعمون كييف في نزاعها مع الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد.

ويسيطر الصراع على منطقة دونباس شرقي أوكرانيا، منذ عام 2014، عندما شنت كييف عملية ضد جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين المواليتين لروسيا. 

ورغم اتفاقيات مينسك، المصممة لإيجاد حل سياسي للصراع، استمرت الاشتباكات في دونباس، ووفقا لأحدث البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة، قُتل نحو 13 ألف شخص في الأعمال العدائية.

وأعلن مسؤول روسي في وقت سابق، أن مدربين من الدول الغربية يدربون الجيش الأوكراني. وهو ما ينتهك بشكل مباشر اتفاقيات مينسك ويؤثر سلبا على التسوية في دونباس. وأن حوالى 10 آلاف عسكري من دول "الناتو" يتمركزون في منشآت عسكرية وقواعد بحرية في أوكرانيا. وأن الأخيرة أرسلت نصف جيشها إلى دونباس. بمن فيهم عسكريين أوكرانيين تدربوا على يد قناصين بريطانيين. مما دفع الرئيس الروسي بوتين، إلى دعوة نظيره الأميركي، بايدن، لعدم تحميل روسيا المسؤولية عن التصعيد حول أوكرانيا. وأن "الناتو" هو الذي يزيد من قدراته قرب الحدود الروسية.

ويتحدث أنصار المعسكر الغربي في أوكرانيا عن أسباب و"حقائق" تدفع بلادهم نحو البعد عن صف روسيا، وعن "إخفاقات" الأخيرة للحيلولة دون ذلك. وان "الأوكرانيين كانوا متمردين على النظام القمعي في زمن الاتحاد السوفييتي. ولا يرضون الوقوف إلى جانب النظام الدكتاتوري الحالي في روسيا، حيث لا ديموقراطية حقيقية ولا سيادة للقانون؛ ولا مكانة للشعب أمام المصالح الضيقة"، على حد تعبيرهم.

لكن ثمة رأي آخر لا يقل قوة، مفاده أن "طلاق كييف مع موسكو" جاء نتيجة "فتنة" أشعلها الغرب في العائلة الروسية- الأوكرانية، بدفع كييف نحو اللهاث وراء "جزرة الوعود" بالدعم والعضوية، في حلف "الناتو". وأن "أوكرانيا تُدفع نحو خلق هذا التوتر من قبل الغرب وغيره لإسقاط حصون التحالفات الروسية السابقة. وأن هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، برزت أول مرة مع أحداث الثورة البرتقالية في نهاية 2004، وتكررت لاحقا".

ويرى أصحاب هذا الرأي أن "أوكرانيا هي الخاسر الأكبر لأنها حولت نفسها إلى ساحة صراع، هي فيه الحلقة الأضعف، مقابل سراب مستقبل أوروبي ودعم أطلسي بعيد المنال". 

وفيما استبعد الغربيون حتى الآن، أي رد عسكري على هجوم روسي محتمل على أوكرانيا، لم يبد الكرملين أي اكتراث للتهديدات بفرض عقوبات. فروسيا تتعرض لعقوبات اقتصادية على خلفية الملف الأوكراني، غير أن أيا من هذه التدابير لم تحمل الكرملين على تغيير سياسته. خصوصاً أمام الإصرار الغربي والأميركي على محاصرة روسيا واستهدافها، من أوكرانيا. وها هو مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، ينتقد روسيا بسبب طلبها عدم توسع حلف الناتو شرقا، مؤكداً أن هذا الطلب "مرفوض". وقال: "المنتصرون فقط هم من يفعلون ذلك ويملون شروطهم". 

وسبق للرئيس الروسي أن أكد، أن توسع "الناتو" باتجاه الشرق ونشر الأسلحة الهجومية في أوكرانيا، يمثلان خطوطاً حمراء لموسكو. وتشمل مطالب روسيا تقديم حلف "الناتو" ضمانات لها بعدم السماح بانضمام أوكرانيا أو دول الاتحاد السوفيتي السابق، إلى الحلف العسكري الغربي. وفي هذا السياق، استبعد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تقديم أي "تنازل".

المهم في هذه الأزمة، رسوها على توافق باستبعاد الحلول العسكرية. واستمرار التواصل الهاتفي بين الرئيسين الروسي والأميركي. وكان بوتين أكد قبل الاتصال الأخير، أنه "مقتنع" بإمكان إقامة حوار "فعال مبني على الاحترام المتبادل ومراعاة المصالح القومية" للبلدين. فيما قال الناطق باسمه ديمتري بيسكوف، أن "طريق المفاوضات وحده هو الذي قد يحل المشكلات المتزايدة بيننا". فيما نقل عن بايدن أنه اقترح مسارا دبلوماسيا لتجنب التصعيد العسكري في أوكرانيا.

واللافت في هذا التوقيت، قول وزير الخارجية الصيني وانغ يي، قبل نهاية السنة بيومين، إنه "إذا وقفت بلاده كتفاً بكتف مع روسيا، فإن البلدين معاً قادرتان على ضمان النظام العالمي وصد ضغوط الدول التي تسعى للهيمنة على العالم".

وهذا إعلان عن قوة الموقف الروسي؛ ونذير بأن التراجع الغربي عن التصعيد في أوكرانيا آت. لكن حرباً باردة تتجدد بين الدول النووية، بديلاً عن حرب نارية قد تبيد البشرية إذا حصلت، وسط إستمرار تضارب المصالح والتسابق على فرض النفوذ.
 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل