الثبات - إسلاميات
منبر الجُمعة
الله تعالى يفرح بتوبة عباده
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
هما مولدان متجاوران زمنياً، أما أحدهما فمولد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد تم الاحتفال به منذ يومين كما تعلمون، وأما الثاني فهو مولدنا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سيحتفل العالم الإسلامية به بعد أيام، ومما لا ريب فيه أن بعثة كلٍّ من هذين النبيين والرسولين موئل رحمة للعالم أجمع، ألم تقرؤوا قول الله سبحانه وتعالى عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم خطاباً له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
أو لم تقرؤوا قوله سبحانه وتعالى عن عيسى بن مريم على لسان جبريل: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً) [مريم: 21].
هما رحمتان، رحمة أنزلها الله عز وجل على عباده ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ورحمة أخرى أنزلها الله عز وجل على عباده بولادة وبعثة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، على أن رحمات الله عز وجل كثيرة وموئلها كثير لا يُعَدُّ، ولقد أحسن رجال الدين المسيحي في بلادنا صنعاً عندما جعلوا احتفالاتهم بذكرى مولد سيدنا عيسى التجاءً إلى الله وتضرعاً بين يديه أن يزيح عن بلدتنا هذه، هذه المصيبة وأن يعيد نعمة الأمن والسلام إلى ربوع شامنا هذه، أجل، لقد أحسنت صنعاً إذ جعلت الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة يُتَرْجَم إلى التضرع والالتجاء والتذلل على أعتاب الله سبحانه وتعالى.
ولكني أقول لكم يا عباد الله: دعوا الدنيا كلها، دعوا الأسباب أجمع، على الرغم من ما نرى من فرق عجيبٍ وغريبٍ ما كنا نتوقعه، دعوا الأسباب وارحلوا إلى المسبب، عودوا إلى الإله الذي ابتلانا بهذه المصيبة، اربطوا آمالكم به واعلموا أن الله سبحانه وتعالى الذي شاء أن يبتلينا بهذه المصيبة منذ عامين إلا قليلاً إنما أراد من ذلك أن يوقظنا من سبات، إنما أراد من ذلك أن يعيدنا لنصطلح على صراطه ونهجه، ألا ولتعلموا أن لكل جلال يظهر جمالاً يختفي في داخله، ألا ولتعلموا أن لكل جلال من المصائب جمالاً من الرحمات، ولسوف تجدون هذه الرحمات عما قريب، ولكنها منوطة بشيء واحد قلتها وأعود فأقولها، منوطة بالتوبة يا عباد الله، منوطة بالاصطلاح مع الله يا عباد الله، منوطة بأن نعود فنتذكر هوياتنا التي ينبغي أن نرحل بها هي إلى الله سبحانه وتعالى عما قريب، قلتها - لا أقول بالأمس - قلتها قبل أن تطل هذه المصيبة علينا، ذكَّرْت بطائفة من المعاصي أوغلنا فيها، وذكَّرْت نفسي وكل من شرفهم الله بالمقام فوق هذه الأرض المباركة بضرورة التوبة، بضرورة الإقلاع عن المعصية، وإنني لأقول لكم: إن هذه المصيبة فيما أرى وأرجو الله أن تكون رؤيتي صائبة قد آتت قدراً كبيراً من ثمارها. كثيرون هم الذين كانوا تائهين بالأمس قد استقاموا على صراط الله اليوم، كثيرون الذين كانوا غافلين يتقلبون في حمئة الشهوات والأهواء بالأمس إنهم اليوم يتجهون إلى مولاهم وخالقهم بالتوبة والإنابة، وأسأل الله عز وجل المزيد من هذا التوجه إلى الله عز وجل. ولا أزال أقول، لا أزال أوجه هذه التذكرة القلبية المنبعثة والله يشهد من مشاعر حب، من مشاعر شفقة، من مشاعر مودة وغيرة، أتوجه إلى قادة هذه الأمة، إلى جيش هذه الأمة، إلى المسؤولين في هذه الأمة، إلى شتى فئات هذه الأمة أدعوهم وأدعو نفسي قبلهم إلى التوبة، إلى الإنابة، إلى الاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى.
ربنا يدعوا عباده إلى التوبة وفي الناس ناس يضعون ما بين نداء الله وآذان هؤلاء التائهين الحجب، لماذا يا إخوتنا، لماذا أيها الإخوة؟ لماذا تضنون على واحدٍ مثلي أن يرحل إلى الله بمثوبة واحد واحد فقط هداه الله بسبب تذكرة ذكَّره بها فقال ممن قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وفي رواية خير لك من حمر النعم". عباد الله أصدقكم الكلام: عندما أتلقى عن طريق الهاتف أو بشكل مباشر حديثاً لإنسان يعرفني على نفسه وغصة البكاء في حلقه يخبرني أن كان تهائهاً ثم اهتدى، يخبرني أن كان يخب في ظلمات الجهل والجاهلية ثم ارعوى، هل تعلمون كم هي الفرحة التي تغمر كياني. والله الذي لا إله إلا هو لو سيقت إلي كنوز الدنيا كلها بكل ما فيها من متع لن تبلغ فرحتها فرحة هذا الكلام إذ يلغني عن طريق هاتف أو بشكل مباشر حديثاً عن إنسان واحد هداه الله عز وجل بتذكرة سخرني الله عز وجل بها، لا أقول عشرات بل أقول واحد. يا ناس لماذا تضنون عليَّ أن يثيبني الله عز وجل بهذا الثواب العظيم، لماذا تضنون عليَّ أن أكون واحداً ممن قال عنهم رسول الله (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً إلى آخر الحديث). وأنا أعلم أن فرحتي هذه إنما هي جزء من فرحة رب العالمين التي عبَّر عنها رسول الله في الحديث المتفق عليه، أجل المتفق عليه برواية عبد الله بن مسعود وأن بن مالك قال: (لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل بأرض دُويَّةٍ مُهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، قام يطلبها حتى اشتد عليه الحر واشتد عليه العطش فقال: أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، ورجع وامتد ووضع رأسه على ساعده ثم استيقظ وإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، يقول رسول الله: فالله أشد فرحاً بتوبة العبد من فرح هذا براحلته). وأقول من القيادة، من الجيش، من المسؤولين، انظروا يا عباد الله كم يفرح الله بأوبتكم إليه، كم يفرح الله بعودتكم إليه، كم يفرح الله باصطلاحكم معه، ألا فانضووا تحت رحمة الله بالتعرف على الله، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، أقولها اليوم وسأقولها غداً وأحتسب أجري في ذلك عند الله راجياً أن يكتبني ممن قال عنهم: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]
خطبة للشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله
ألقاها يوم الجمعة، 14 صفر 1434 الموافق 28/12/2012.