أقلام الثبات
بات واضحاً أن المهلة التي أعطاها الرئيس ماكرون للكتل السياسية الأساسية في البلاد للتوافق على الحكومة قد لا تكفي لإخراج حكومة مقبولة من الجميع كما كان الحال مع اسم مصطفى أديب الذي تمّ طرحه من قبل مجموعة "رؤساء الحكومة السابقين" والقبول به من قبل الأحزاب الأخرى، وذلك في إشارة واضحة الى أن الجميع معني بانجاح المبادرة الفرنسية.
ولكن، وكما في كل مرة يكمن الشيطان في التفاصيل، وهذه التفاصيل اليوم هي ألغام زرعها الحريري والسنيورة في درب الرئيس المكلف مصطفى أديب، وأقنعاه بأن بإمكانه أن يشكّل حكومته متخطياً الكتل النيابية وكل الأعراف السياسية اللبنانية، ومنقلباً على نتائج الانتخابات النيابية.
إنها المرة الثانية التي يستشعر الحريري بقدرته على الانقلاب على الشركاء في الوطن، ويحاول تغيير نتائج الانتخابات النيابية التي لم تأتِ لصالحه عام 2018، فيحاول بالتعاون مع الخارج أن ينفد انقلاباً يعطيه حق التفرد بالحكم، والاستئثار بالسلطة وحده لتمرير ما يريده الخارج، وذلك كما يلي:
- الانقلاب الاول كان في تشرين الأول عام 2019، حين أستغل الحريري وقوى 14 آذار الحكومية سياسة الضغوط القصوى الأميركية، ليندسوا في مظاهرات 17 تشرين التي خرجت بعدما قام أحد وزراء الحريري نفسه بإعلان ضريبة جديدة على واتساب، بنصيحة من أحد وزراء "القوات اللبنانية".
يمكن أن يكون هذا الاعلان - الذي تمّ التوافق عليه في مجلس الوزراء- هو الشرارة المتفق عليها لحصول الانقلاب، فحصل ما حصل ونزلت الناس الى الشوارع مدفوعة بغضب عارم سببه شهر من الأزمات المتنقلة والمفتعلة والتي تلت زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى نيويورك وإعلانه صراحة أن "لبنان يقرر ما يريد، ولا أحد يستطيع أن يملي عليه إرادته في مواضيع التوطين واللاجئين وصفقة القرن وغيرها"... بعدها مباشرة، وخلال وجود الرئيس عون في الولايات المتحدة ارتفع سعر الدولار بصورة مفاجئة، وتوالت أزمات البنزين والأفران والحرائق وغيرها..
وبالطبع، استقال الحريري مشترطاً العودة بتشكيلة حكومية يقررها بنفسه، من دون تدخل أحد من القوى السياسية، الأمر الذي رفضه الآخرون، وفشل الانقلاب، وتراجعت الثورة ولم تحقق شيئًا فعلياً من المطالب التي رفعتها.
- اليوم يحاول الحريري العودة الى الصيغة الأساسية التي اشترطها بعد استقالته؛ أي أن يقرر بنفسه أسماء الوزراء جميعهم، على أن تكون الواجهة "مصطفى أديب"، الذي لم يتشاور مع أحد من الأطراف السياسيين في تركيبة حكومته التي ستخرج واقعياً من بيت الوسط.
يتكل الحريري اليوم على ضغوط فرنسية وأميركية لإخراج الجميع من الحكومة، وبالتالي تنفيذ هدف أميركي معلن؛ "إخراج حزب الله من الحكومة"، وهو ما دفع الثنائي - عبر الرئيس برّي- الى إعلان الاستياء من تهميشهما في المشاورات الجارية.
أين يمكن أن يصل الحريري في انقلابه الثاني؟
جميع الاحتمالات واردة بالنسبة لتشكيل الحكومة، التي يمكن أن تتشكّل كيفما كان (بغضّ النظر عن الأسماء) في ظل سعي الأطراف المختلفة الى عدم إحراق المبادرة الفرنسية التي تبدو حبل النجاة الأخير للبنان، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وعدم استقرار أمني وسياسي. لكن، الأكيد، ومن خلال الدروس والعبر التي تمّ استخلاصها من تاريخ لبنان الحديث في السنوات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أن الاستقواء بالخارج لتغيير موازين القوى الداخلية لا يمكن أن ينجح، وبالتالي حيث فشل السنيورة سابقاً سيفشل انقلاب الحريري الحالي مرة ثانية.