أقلام الثبات
انتقل الصراع في ليبيا بين طرابلس (حكومة الوفاق) وبنغازي (القوات المسلحة العربية الليبية) الى صراع بين طرابلس (فايز السراج) ومصراتة (فتحي باشأغا)، بعد أن عزم التركي على تنصيب ذي الميول الإنكشارية والأصول التركية فتحي باشأغا وزير الداخلية بحكومة الوفاق على مقعد طرابلس الأول، فأستبق السراج الأمر للتخلص من العبء الأخطر عليه منذ قدوم الفرنسي برنار هنري ليفي إلى مصراتة في يوليو/ تموز الماضي بالتنسيق المنفرد مع باشأغا، الذي غادر إلى تركيا أثناء إشتعال التظاهرات في طرابلس من دون علم السراج أيضا، فقام السراج بتعيين وزير دفاع ورئيس أركان جديدين معا، ثم قام بعزل باشأغا عن مهامه كوزير للداخلية، لأن باشأغا كان يشرف على عمل وزير الدفاع ورئيس الأركان بالجيش.
فإن كان السراج منزعجاً من حجم مليشيات وزير داخليته، فمدير المخابرات التركية هاكان فيدان ينزعج أكثر من حجم الاتصالات بين المخابرات الفرنسية وباشأغا، ولذلك نظرة فيدان لمجرم مصراتة تختلف عن نظرة أردوغان كثيرا، كحال الإختلاف بين المخابرات التركية ونظيرتها الإيطالية تجاه هوية رجل طرابلس الأول في المستقبل، الى أن جاءت ضغوط تركية شديدة على السراج كي يعيد باشأغا الى منصبه وهو ما تم، بعد أن أستعرض باشأغا قوته العسكرية في وجه السراج، وفي وجه من يفكر أن يتخلى عنه من حلفاء الخارج.
وبرغم تغير شكل الصراع في الميدان الليبي، من الحرب بين الجيش الوطني وحكومة الصخيرات، الى الصراع بين السراج وباشأغا، إلا إن الصراع في مياه اليونان وتركيا بالمتوسط صار أكثر سخونة، بعد أن تواجد الجيش اليوناني على أغلب الجزر اليونانية، حتى أن رئيسة اليونان "إيكاتيريني ساكيلاروبولو" تعتزم زيارة جزيرة "كاستيلوريزو" التي تقع على مسافة 2.8كم من السواحل التركية، مما سيتطلب وجود قوات عسكرية يونانية على تلك الجزيرة، علماً إن اتفاقية لوزان تنص على عدم عسكرة تلك الجزيرة وما حولها، في تصعيد جديد بين اليونان وتركيا، اللتين تعاملت معهما الولايات المتحدة بمبدأ "ماما أميركا" فأرسلت حاملتي طائرات لكل دولة لإجراء تدريبات مشتركة مع كل جيش على حدة في وقت واحد، كي تحتوي الطرفين، في ظل زيادة الحضور السياسي والوجود العسكري الأميركي بشكل قوي بالجزر اليونانية.
ولكن فرنسا التي أخذت على عاتقها حماية أوروبا من الهجمة العثمانية الجديدة كانت أكثر وضوحا، ولم تكتفِ بإرسال حاملة الطائرات "شارل ديجول" إلى شرق المتوسط، أو مقاتلات "الرافال" وحاملة المروحيات "تونر" والفرقاطة "لا فاييت" إلى قبرص، بل توجهت نحو توقيع عقود توريد أسلحة للجيش اليوناني تشمل فرقاطات طراز فريم ومقاتلات رافال عبر وساطة مصرية، حتى صار هناك محور عسكري واضح المعالم وهو محور فرنسا، اليونان، قبرص، مصر، الإمارات وللأخيرة عدد ليس بالقليل من مقاتلاتها F16 بقبرص واليونان، وستذهب لدعم تسليح الترسانة العسكرية اليونانية، وللعب بورقة التطبيع مع إسرائيل للحصول على أحدث الإسلحة الأميركية وفي المقدمة مقاتلات F35، إلى جانب تحجيم تركيا في سوريا وليبيا.
إن كان ذلك شكل المحور المناهض لتركيا، فإن أهم داعمي أنقرة إضافة إلى قطر هم:
روسيا التي منحت تركيا دفاعات جوية قادرة على تغيير نتيجة أي مواجهة في سماء جزر اليونان القريبة منها، والأهم منحها مظلة من الدولة الأرثوذكسية الأكبر، كي لا يكون صدام أردوغان مع اليونان حرباً على المسيحية، أو على نادي أوروبا المسيحي (كما لقبها بابا الفاتيكان الأسبق).
المانيا التي سمحت لتركيا أن تلتقط أنفاسها وتستعيد قوتها في الميدان الليبي، عبر إتفاق برلين، إضافة إلى دعمها الصريح لحكومة الوفاق على حساب الجيش الوطني الليبي.
الجزائر التي واجه فيها أردوغان خصومه بليبيا من المسافة صفر، ويكفي الدور الكبير الذي لعبته الجزائر في سقوط الغرب الليبي بيد تركيا، ودور جهاز مخابراتها DSS بالتواصل مع أمازيغ نالوت وقبائل الغرب وضباط الزنتان بالجيش الليبي، مما جعل قاعدة الوطية تسقط في يد الأتراك في أقل من ساعة بالخيانة وليس بالحرب.
وهو ما جعل أردوغان يرد للجزائر الهدية عبر تسليم المخابرات التركية في بداية أغسطس/ آب الماضي قرميط بونويرة الكاتب الخاصً لقائد الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح (حليف الإمارات)، كي يسقط العسكري المتقاعد الذي غادر الجزائر متجها إلى تركيا في يناير/ كانون الثاني الماضي بجواز سفر قطري مصطحبا معه ملفات هامة جدا تخص المؤسسة العسكرية الجزائرية قبل أن يبيعه أردوغان لعبد المجيد تبون، في مشهد قد يشبه سقوط القيادي الإخواني البارز محمود عزت في يد الأمن المصري.
كما يلاحظ الجميع حجم اللجان الإلكترونية المعادية لمصر التي أنطلقت مؤخرا من الجزائر بدلا من الدوحة أو أنقرة أو لندن كما أعتدنا من قبل، وتأتي زيارة وزير الخارجية الجزائري لتركيا حاليا لإستكمال الشراكة بينهما، وهو ما يزعج فرنسا بشدة، في ظل خسارة مالي (جنوب الجزائر)، وإستعداد تركيا لإحداث خسارة جديدة لفرنسا في السنغال، لذلك جاءت زيارات ماكرون للبنان والعراق في المقام الأول لضرب مخططات تركيا تجاه تلك الدول.
خلاصة القول: اذا كان الكبار يعدون من حين إلى آخر طبخة جديدة لتقسيم ليبيا حسب مصالحهم، فتركيا وما حولها يستعدون لـ "سيفر" أو "لوزان" جديدة، يحدد على أساسها شكل تركيا وشرق المتوسط لمئة عام قادم، ومصير ليبيا وكل دولة تمس مياه شرق المتوسط سواحلها مرتبط بنتيجة ذلك الصراع، فالأمر تم عكسه الآن، وصارت الحرب أقرب إلى جنوب أوروبا من ليبيا، ويعود الفضل في ذلك للخط الأحمر المصري "سرت - الجفرة" الذي أوقف أي مواجهة كارثية على الأرض الليبية، وجعل الصدام ينتقل شمالا نحو البحر المتوسط في جنوب أوروبا.
وستبقى كلمة الحسم سواء في البحر أو على الأرض للولايات المتحدة التي تعيد تشكيل كل الأجسام السياسية الليبية من جديد بمشاورة الأطراف المتداخلة في ليبيا، وأي من الوجوه المرغوب بها كي تستمر، أو ستختفي بلا رجعة سواء في الشرق أو الغرب الليبي.