أقلام الثبات
ليس في إشهار العلاقة الاماراتية مع الكيان الصهيوني أي مفاجأة، فالعلاقة بين باعة الكاز العربي عموماً، وحكام أبو ظبي خصوصاً قديمة جداً، عمرها أكثر من نصف قرن، بدأت مع الاستعمار الانكليزي الذي فرض السلالات الخليجية على عروش المشيخات، فكان تبادل الحب والمنافع والمصالح، وقبلها حماية التاج البريطاني لعروش هذه المشيخات.. ولكن مع نتائج الحرب العالمية الثانية، وبروز الولايات المتحدة التي دخلت الحرب في نهايتها، قوى عظمى مهيمنة، بدأ تحول هذه المشيخات نحو السيد الجديد مقابل حمايتها، فكانت الخطوة الأولى لكبير هذه المحميات، لقاء الملك عبد العزيز آل سعود، مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت العائد من مؤتمر يالطا، في 14شباط 1945 في البحيرات المرة وسط قناة السويس، على متن الطراد الأميركي "يو إس إس كوينسي" حيث تم خلالها نقل البندقية الخليجية من الكتف البريطاني إلى الكتف الأميركي، علماً أن رائحة الكاز والغاز والنفط المنبعث من الصحراء اخذت تملاء انوف السيد الأميركي، الذي قرر غرز مخالبه في تلك المنطقة.
وفي الخلاصة لهذه البداية، فإن كل أبناء منطقة الخليج والمقيمين فيها، ومن دون العودة إلى الوثائق والوقائع والأحداث التاريخية يعرفون أن المنطقة الخليجية محتلة بشكل أو بأخر، وإن بشكل مستتر، وأن تخلى عنهم اسيادهم فلن يعيشوا اسبوعاً واحداً.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن، لم يتوان حكام المشيخات عن الانخراط في مشروع أو حلف خلقه المستعمر من أجل تطويع المنطقة وجعلها فناء واسعاً لمصالحه، وإن كانت في المراحل السابقة منذ الاربعينيات من القرن الماضي، تتم بالسر، أو تحت تسميات البناء والتنمية والانخراط في روح العصر، إلّا انها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي بدأت تتخذ الطابع العلني، مستفيدة من خيانة أنور السادات الذي اندفع للصلح مع العدو "الاسرائيلي" بدءاً من زيارته القدس المحتلة عام 1977، وتوقيعه العام 1979 اتفاقية الذل والخيانة المتمثلة في "اتفاقية كامب ديفيد"، فكان في شهر أيلول عام 1981 طرح مبادرة ولي العهد السعودي في حينه "فهد بن عبد العزيز" في قمة فاس، لكنها لم تمر، لكن بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، عادت القمة العربية، وفي "فاس" أيضاً لإقرار المبادرة السعودية، وفيها اعتراف بالعدو، تحت عنوان "السلام العادل والشامل".
منذ تلك الفترة بدأت دول الكاز العربي عملية تمويل للأنظمة الرسمية العربية، ودعم أعمال التطبيع مع العدو، في نفس الوقت الذي بدأت فيه، علاقات واسعة مع تل ابيب في السر والعلن، وكانت اكثر تجلياتها، في فتح مكاتب أو ممثليات للدولة العبرية تحت عناوين، مصالح تجارية.
في التسعينيات بدأت مشيخات الخليج وأنظمة عربية أخرى، تنسج علاقات واضحة مع العدو، وبدأت زيارات متبادلة مستفيدة من مغامرة صدام حسين في الكويت، وما أسفرت عنه هذه المغامرة من تحطيم للقوة العراقية الكبرى، في نفس الوقت الذي بدأ فيه اشهار العداء العلني والواضح للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي كان انحيازها ودعمها واضحاً لفلسطين وقضيتها ومقاومتها.
فكانت اتفاقية أوسلو، واتفاقية وادي عربة، وعلاقات واسعة مع المغرب وتونس، وموريتانيا...
ورغم ذلك، فشلت منظومة الكاز العربي في فرض التطبيع مع العدو، في نفس الوقت الذي كانت فيه قوى المقاومة تحقق انتصارات كبرى، تمثلت أولاً بالانتفاضات الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ثم بالانتصار اللبناني غير المسبوق في تاريخ الصراع العربي ـ "الاسرائيلي" بدحر المقاومة اللبنانية الباسلة للعدو عن الجنوب والبقاع الغربي (ما عدا مزارع شبعا وتلال كفر شوبا) في أيار 2000، من دون قيد أو شرط.. وهنا كان المشروع السعودي للاعتراف بالعدو، من خلال المبادرة السعودية في قمة بيروت عام 2002، التي كانت في أحد أوجهها تكاملاً مع الهدف الأميركي الذي احتل العراق عام 2003، وتمرير شروط كولن باول، الذي رفضها بشار الأسد وإميل لحود.
كان لموقف الرئيس المقاوم إميل لحود برفض المبادرة السعودية من دون أن تتضمن بشكل واضح وصريح الإقرار "بحق العودة" للاجئين الفلسطينيين، دوره الهام في إفشال حلقة جديدة من المؤامرة الجديدة التي تكشفت بأوضح صورها في عدوان تموز 2006 حين اعلنت ناظرة الخارجية الأميركية انئذ كوندا ليزا رايس أنه "من رحم هذه الحرب سيولد الشرق الأوسط الجديد".
لقد فشلت منظومة الكاز الخليجية هذه المرة أيضاً، ففتحت حربها الإرهابية على سورية التي شارك فيها 86 دولة، واكثر من 500 الف مسلح إرهابي جاءوا من كل العالم، لكنها عجزت عن كسر الدولة الوطنية السورية، كما فشلت في تآمرها على العراق ولبنان وفلسطين وفي مواجهة ايران ومحور المقاومة.
بأي حال، فإن ماهو قائم بين منظومة الكاز والعدو "الاسرائيلي" في السر اكبر بكثير، مما تم الإعلان عنه وما يحكى فيه وقد كشف الإعلام الصهيوني جانباً من صلح أبو ظبي وتل ابيب، فأكدت القناة العاشرة الاسرائيلية أن هذا الاتفاق "يمثل مأسسة لعلاقات كانت قائمة تحت الطاولة منذ زمن بعيد".
وأشارت "قناة كان" ان "محمد بن زايد دفع اغلى الاثمان لأنه كان يحصل على ما يريد من تعاون عسكري واستخباري ضد ايران".
وفي توقيت الإعلان الاماراتي ـ الصهيوني هو جاء تلبية لصالح نتنياهو الذي يجاهد ليهرب من تهم الفساد والسرقة والتظاهرات المتصاعدة ضده في داخل الكيان، كما جاء تلبية لمصالح دونالد ترامب الذي يفتش عن أي قشة لتعيد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، بعد أن اخذت شعبيته تهبط بشكل مريع جراء فشله في التعامل مع وباء كورونا وتزايد الصراع العنصري في بلاد العم سام.