أقلام الثبات
تمثيلة جديدة يحاول أركان نظام تحالف الفساد المالي والطائفي تمريرها على اللبنانيين، من خلال طرح شعارات براقة هم أعلم بكيفية تفريغها من مضمونها، عندما تصبح على تماس سلبي مع مصالحهم وإقطاعاتهم الطائفية والمناطقية. يطرحونها في تجاوب منهم مع رغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الدعوة إلى "عقد لبناني جديد"، بما يعني تعديلاً في الدستور المعمول به. هذه الشعارات التي باتت ترددها وسائل الإعلام، تتنقل بين الدعوة إلى الدولة المدنية، أو إقرار قانون إنتخابي جديد على أساس لبنان دائرة واحدة، من دون قيد طائفي.
أصحاب هذه التمثيليات الباهتة، يعلمون يقيناً أن اللبنانيين لم يعودوا يهتمون بطروحاتهم وأقوالهم، فقد تعودوا عليهم يرمون في سوق المزايدات أفكاراً غير قابلة للتطبيق، خصوصاً أن هناك قوى سياسية وطائفية ترفض مثل هذه الأفكار وتعتبرها مسألة حياة أو موت. وبالتالي، فإن هذه الطروحات ما هي إلا للإستهلاك الشعبي، لدى الذين يصدقون أقوال زعماء الطوائف وأصحاب المناصب، من جمهورهم واتباعهم.
ويعرف السياسيون أن اللبنانيين باتوا على يقين، أن لا خلاص لوطنهم من أزماته في ظل هذا النظام الطائفي. وأن الطائفية هي بيت المحاصصة. وهذه الأخيرة هي سر الفساد ومصنعه. وبالتالي فان كل كلام عن إصلاح أو محاربة للفساد، أو محاسبة للفاسدين، هي ذر للرماد في العيون وضحك على الذقون، لأن القوى التي تستفيد من المحاصصة وتحرس حدودها وحساباتها، قادرة على منع بل قمع أي مسً برموزها وأركانها، بما يحمي الفاسدين ويوسع من دوائر الفساد، التي عمت البلاد وطالت معظم العباد.
ولو كان ممكناً لهذه الطروحات أن ترى النور، لطبقت بنود إتفاق الطائف كاملة. ولما بقي بعضها محظوراً طوال العقود الماضية منذ توقيع ذلك الإتفاق.
فاتفاق الطائف، الذي جاء نسخة عن دستور 1943 في كونه تعبيراً عن وصايات الخارج التي تحدد وترسم توازنات الداخل، في "مواثيق وطنية" لا تعدل أو تبدل إلا بحروب داخلية، حدد جملة من البنود الإصلاحية جرى تجاهلها ومنع تطبيقها من قبل قوى في الداخل، محمية بنفوذ الخارج. وأبرز تلك البنود: إلغاء الطائفية السياسية كأولوية وطنية، الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي، انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يستحدث معه مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، اللامركزية الإدارية الموسعة وغير ذلك من اصلاحات كان يمكن لها أن تساهم في منع الإنهيار السياسي والمالي القائم.
واللبنانيون يذكرون الوقاحة التي منع بها توظيف الناجحين لوظائف دنيا، في امتحانات مجلس الخدمة المدنية، لأنها لم تستوف التوازن الطائفي، علماً أن أحد بنود الطائف يقضي باعتماد الكفاءة والاختصاص، في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وما يعادل الفئة الأولى، فتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.
فهل يعقل أن من من عجز أو رفض أو تواطأ على منع تطبيق هذه البنود، يمكن أن يكون صادقاً في الدعوة إلى تطوير هذا النظام البالي، الذي تخطى كونه عبئاً على اللبنانيين وبات يشكل كارثة حقيقية لهم، لأنه يمثل كل عناصر الشر المحدقة بهم، فهو يفقرهم ويسلط أصحاب المصارف على أموالهم. ويهجر أبناءهم في دنيا الله الواسعة بحثاً عن مستقبل ولقمة عيش. كما أنه خطر داهم عليهم، لأنه يهددهم بفتن مدمرة بين الفينة والفينة. وهل سيبقى هذا البلد رهينة التدخلات الخارجية التي تقرر له مصيره وانعطافاته، بل وحتى قوانينه ودستوره. أم أن أصحاب السلطة وارباب المناصب العليا، قد يصحون في اللحظة الأخيرة ليروا أنه لم يعد أمامهم من خيار، فأما استمرار قيادتهم مركب مزارع الطوائف نحو دوامة الغرق؛ وأما أن يحققوا دولة المواطنة والكفاءة والعدالة، قبل أن يكرروا موقف آخر ملوك عرب الأندلس: "ابك ملكاً كالنساء لم تحفظه كالرجال".