أقلام الثبات
عبثاً يحاول المواطن اللبناني الصادق والشريف البحث عن وطن في وطنه. فيجده مجرد دكان لتجار الطوائف والطائفيات. أو مرتعاً للجواسيس ومندوبي قوى الإستعمار والتبعية والهيمنة. أو سوق نخاسة لمن يدفع أكثر، في مواسم السياحة والإصطياف. وفي أحسن الأحوال منهبة لأصحاب رؤوس الأموال المتحالفين مع الزعامات السياسية والدينية، في رعايتهم وحمايتهم ومشاركتهم للنظام المصرفي، الذي تكون وأثرى أصحابه وضاعفوا مسروقاتهم من أموال الدولة والشعب اللبناني، عشرات الأضعاف تحت شعار خدمة الدين العام. ومسيرة هذا القطاع من "بنك أنترا" إلى سرقة أموال المودعين هذه الأيام، تؤكد أن هذا القول أمراً واقعاً وليس اتهاماً باطلاً.
منذ إنشاء هذا الكيان "اللبناني"، أراده صانعوه خنجراً في ظهر وخاصرة سورية. فاطلقوا "نغمة الحياد" للتغطية على تواصلهم مع المشروع الصهيوني الذي إغتصب فلسطين العربية وطرد جل أهلها منها. وتبين المنشورات "الإسرائيلية" المتأخرة، أن التواصل اللبناني الرسمي كان على أعلى المستويات مع قادة الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة. ومع رؤساء ما يسمى "دولة إسرائيل". وليس بشارة الخوري أفضل حالاً من إميل إده في هذا الشأن. فأحدهما دعا الصهاينة لتوطين مائة الف يهودي في المنطقة بين صيدا وصور. على أن يطرد سكان هذه المنطقة إلى العراق. وأن الآخر طالب بالا يكون جبل عامل حائلاً بين لبنان و"إسرائيل"، فيتم إخلائه من سكانه الشيعة واسكان مغتربين لبنانيين من طائفة أخرى مكانهم. كل ذلك تحت ستار حياد لبنان عن صراعات المنطقة.
وتتجدد نغمة الحياد مع كل منعطف خطير تمر به المنطقة العربية. فحياد كميل شمعون كان إنضماماً للبنان إلى حلف بغداد. وتبعية مطلقة للسياسة الأميركية في حربها ضد جمال عبد الناصر ومشروع الوحدة العربية، في تلك المرحلة.
حتى حياد الشهابية، كان في أحد جوانبه أن تنكل "الشعبة الثانية" بكل أصحاب دعوات التغيير من الشباب اللبناني. وبكل من يتحرك على وقع إنتفاضة المنطقة وثورتها ضد الهيمنة الغربية وضد المشروع الصهيوني. حتى أن أحد أبرز أصدقاء السلطة في تلك المرحلة، لم يتورع عن وصف الشهابية بأنها "إنعزالية مقنعة"، تلتزم المشاريع الأميركية وتكذب على مصر عبد الناصر بادعاء السير في الركب العربي المعادي لأميركا في ذلك الوقت.
وعندما نفذ ملك الأردن حسين، مجازره بحق الثورة الفلسطينية فانتقلت إلى لبنان، كان شعار معارضي الصراع مع "إسرائيل" هو الدعوة إلى الحياد. لتكشف الأيام أنهم كانوا على تنسيق تام مع العدو "الإسرائيلي". وأنهم هم الذين طلبوا من الجزار شارون ومن قيادته السياسية تطوير هجومهم على لبنان، عام 1982، ليصل إلى بيروت. وليتم بواسطة الدبابات "الإسرائيلية" تنصيب رئيس جمهورية للبنان، مقابل عقد إتفاقية خيانية بين لبنان والعدو، عرفت فيما بعد باتفاقية 17 أيار، التي أسقطها الشعب اللبناني بدعم من سورية. حتى أن بشير الجميل حليف "إسرائيل" المعلن، كان صريحاً في قوله :"مش كل ما جاء عبد الناصر جديد وخميني جديد يجب أن تحصل مشكلة في لبنان". وشاهدنا في تلك المرحلة "حيادية" أصوات الحياد أمام هدير مدافع البارجة الأميركية "نيوجرسي" وهي تدك مناطق لبنانية وتقتل لبنانيين.
وعندما أصبح الإحتلال الصهيوني لمعظم أراضي لبنان حقيقة واقعة، إنطلقت المقاومة ضده، لم يتورع أصحاب دعوات الحياد عن دعم ورعاية الحالة الخيانية، التي مثلها سعد الحداد ومن ثم أنطوان لحد، في تشكيل جيش من اللبنانيين يعمل بأمرة الإحتلال "الإسرائيلي". يقتل اللبنانيين وينكل بهم ويشكل أكياس رمل لحماية جنود العدو. من دون أن يرف للحياديين جفن أو وخزة ضمير.
وكان للرئيس السابق ميشال سليمان حصته من دعوة الحياد، عندما شنت حرب عالمية ضد سورية، فأسقط كل الإتفاقيات والمعاهدات التي تربط لبنان وسورية وأعلن الحياد. وتبين أن ذلك الحياد الكاذب كان ستاراً لرسو بواخر الأسلحة في لبنان وإرسالها لتخريب سورية. ولتحويل لبنان إلى ممر ومقر لكل أعمال التمويل والتسليح ضدها وإدخال المسلحين إليها.
حتى في قتال اللبنانيين للعدو "الإسرائيلي" الذي ما يزال يحتل مناطق لبنانية ويطمع بأراض ومياه وثروات طبيعية لبنانية، ترفع أبواق الحياد أصواتها ضد سلاح اللبنانيين المقاومين. وتطالب بنزعه خدمة صريحة وجلية للعدو "الإسرائيلي" وتلبية لمطلب أميركي معلن.
وهذه الأيام عادت نغمة الحياد لتطلق من على بعض أرفع المنابر، تواطؤا مع مشروع "قيصر" ألأميركي، الذي يهدف إلى حصار وتجويع الشعب السوري، لعل الأميركي يتمكن بالتجويع من تحقيق ما فشل في تحقيقه بالحرب. في حين أن اللبنانيين يعلمون أن لهذا العدوان الأميركي هدفه اللبناني الواضح وهو حصار المقاومة وقطع خطوط امداها وتسليحها. كما أن جزءاً من الحملات التي تستهدف الرئيس ميشال عون، مردها إلى تحالفه مع المقاومة ورفضه الحياد في الصراع ضد المحتلين. فهذا الحياد ما هو إلا خيانة واضحة لدماء الشهداء والجرحى والأسرى ولكل من قدم وضحى في وجه الهمجية الصهيونية المحمية من سلطات الهيمنة الأميركية.