أقلام الثبات
كي نعلم قصة تركيا مع لعبة الغاز من البداية علينا بالعودة إلى يوم 17مارس/ آذار 2015م عندما اجتمع الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأذربيجاني إلهام علييف بمدينة قارص شمال شرق تركيا، ووضع كل منهما حجر الأساس لمشروع "تاناب" بعد أن وقعت كل من شركة خطوط أنابيب نقل البترول التركية (بوتاش) وشركة النفط الحكومية الأذرية (سوكار) وشركة "بريتيش بتروليوم" البريطانية، اتفاق شراكة لمشروع خط أنابيب "تاناب" الناقل للغاز الطبيعي الأذري إلى أوروبا عبر منطقة الأناضول بتركيا.
وتتوزع حصص شركاء مشروع "تاناب" بين الشركة الأذرية بنسبة 58%، و"بريتيش بتروليوم" البريطانية بـ 12%، وحصة شركة "بوتاش" التركية بنسبة 30%، ومن المقرر أن ينقل مشروع خط الغاز العابر للأناضول "تاناب" حوالي 16 مليار متر مكعب من الغاز الأذري (10 مليار متر مكعب إلى أوروبا و 6 مليار متر مكعب إلى تركيا) بحلول عام 2019م تحت إشراف تركي.
ويمتد خط تاناب من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا حتى أوروبا، ويمتد خط الأنابيب بطول 1850 كيلومتراً من حدود تركيا مع جورجيا إلى حدود تركيا مع بلغاريا واليونان، وتقدر تكلفة المشروع بـ11 مليار دولار.
وفي حينها وصف وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي تانر يلدز خلال توقيع الاتفاق في أنقرة، أن "تاناب" مشروع التقت فيه التهديدات السياسية والفرص الاقتصادية.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على وضع حجر الأساس، افتتح الرئيس التركي في 12يونيو 2018م خط "تاناب"، وشارك في مراسم الافتتاح التي أقيمت بولاية أسكي شهير غربي تركيا، رؤساء صربيا ألكسندر فوتشيتش، وأوكرانيا بيترو بوروشينكو، وشمال قبرص التركية مصطفى أقنيجي، إلى جانب وزراء ومسؤولين كبار في تركيا وأذربيجان.
وهو المشروع الذى تأمل دول البلقان من خلاله الاستفادة منه عبر ربط "تاناب" بخط الأنابيب العابر للأدرياتي "تاب" الذي سينقل الغاز إلى أوروبا عبر إيطاليا مروراً بألبانيا، ويمتد خط الأنابيب العابر للبحر الأدرياتيكي "تاب" على مسافة 870 كم، وسيتصل مع خط أنابيب الغاز العابر للأناضول "تاناب" قرب الحدود التركية - اليونانية في منطقة كيبوي.
ومن المتوقع أن ترفع تركيا من سعة مخازن الغاز الطبيعي في كل من سيليفري شمال مرمرة وديغرمنكوي إلى 5 مليارات متر مكعب، وسعة مركز تخزين بحيرة الملح إلى 5.4 مليارات متر مكعب، إلى جانب استمرار العمل على توسيع سعة مخزن الغاز الطبيعي المسال في كل من إزمير وهطاي، وبناء منشأة جديدة في خليج ساروس في شمال بحر إيجة.
كما سعت تركيا منذ خمسة أعوام إلى افتتاح بورصة خاصة بالطاقة، لنقل تركيا لمكانة أخرى تماماً فى الخريطة السياسية قبل خريطة الطاقة نفسها، وهو ما يفسر تصريح بيرات ألبيرق وزير الطاقة التركي الحالي (صهر أردوغان)، عندما قال: "بالقدر الذي تؤدي فيه تركيا دورًا كبيرًا في نقل موارد الغاز من بحر قزوين عبر "تاناب" و"تاب" إلى الأسواق الأوروبية، فهي أيضًا البديل الأكثر منطقية وعقلانية لنقل الموارد الطبيعية في شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية والعالمية".
ويعتبر هذا المشروع ذو أهمية أستراتيجية كبيرة جداً لتركيا وأذربيجان معاً، وسيضيف الكثير لنفوذ تركيا السياسي قبل الاقتصادي، وتلك أبرز وأهم المكاسب:
أولاً: سيتيح ذلك المشروع لأول مرة تصدير الغاز الأذري إلى أوروبا، مما سيدخل بأذربيجان الى السوق الكبير للغاز، بحكم أن أوروبا ثاني أكبر مستهلك للغاز على مستوى العالم.
ثانياً: سيحول تركيا (التي لا تملك غاز) إلى مركز إقليمي للطاقة، وهو ما سيجعل طهران تشعر بالقلق من ابتعاد غاز آسيا الوسطى عن هيمنتها، ونفس القلق بدرجة أكبر سيكون لدى روسيا نفسها التي تتخوف من تقلص حصتها فى أوروبا، وبدرجة أكبر لمكتشفي الغاز الجدد في شرق البحر المتوسط وفي مقدمتهم مصر (صاحبة الاحتياطات الضخمة من الغاز بسواحلها على المتوسط).
ثالثاً: أصبح بذلك المشروع، أمن تركيا (التي أصبحت مصدر الغاز للقارة العجوز) جزءاً من أمن أوروبا، وهو ما يفسر سعي تركيا الدائم لإفشال محاولات قبرص واليونان في التنقيب عن الغاز في سواحلهما، وافتعال الأزمات معهما من حين إلى أخر، كي لا تعرقل اكتشافات اليونان وقبرص الدور التركي المتنامي كمركز أقليمي للطاقة، بالتزامن مع سعي تركيا للتواصل مع إسرائيل لنقل غازها إلى أوروبا عبر أراضي تركيا.
رابعاً: ستضطر طهران بعد أن فشلت فكرة نقل غازها للمتوسط بسبب الصراع في العراق وسوريا، في المشاركة في خط غاز "تاناب" لبيع الغاز إلى أوروبا، وهذا إن لم تستطع تطوير صناعة الغاز، في ظل أستمرار العقوبات الغربية عليها، مما سيجعل موقفها ضعيفاً أمام تركيا في الملفات السياسية المشتركة بينهما تجاه الأقليم.
خامساً: سيساهم مشروع "تاناب" فى خفض أسعار الغاز الطبيعي الذي تشتريه أوروبا مستقبلاً في ظل زيادة عدد مصدري الغاز بالتزامن مع زيادة الإنتاج.
سادساً: لن يكون أمام روسيا لتصدير غازها إلى أوروبا إلا طريق مشروع خط السيل التركي (تركيش ستريم)، وذلك بعد إلغائها مشروع خط أنابيب "السيل الجنوبي/ ساوث ستريم"، الذي كان من المقرر أن يمر تحت البحر الأسود عبر بلغاريا لتوريد الغاز إلى جمهوريات البلقان والمجر والنمسا وإيطاليا، بسبب موقف الاتحاد الأوروبي الذي يعارض ما يعتبره احتكاراً للمشروع من جانب شركة الغاز الروسية غاز بروم.
سابعاً: بفضل خط "تاناب" لم تعد تركيا بلد عبور للطاقة فحسب، بل باتت تلعب دورًا في تحديد أسعارها من المنتج إلى المستهلك النهائي.
ثامناً: إذا كان الخلاف مع أرمينيا يوحد أذربيجان وتركيا، فاليوم الغاز سيزيد من توحد رؤيتهما فى العديد من القضايا السياسية قبل الاقتصادية، والذهاب لما هو أبعد من أرمينيا بكثير، ولا ننسى الأهمية الأمنية والأستراتيجية لجارة إيران الشمالية وعدوها اللدود ألا وهي أذربيجان لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
خلاصة القول الغاز بات سلاحاً استراتيجياً هاماً وحاسماً في كثير من الملفات قبل أن يكون مورد للطاقة، فالتركي الذى ابتز الأوروبيين بورقة اللاجئين، وربح من ورائها الكثير، ثم نحى تلك الورقة وراوغ أوروبا بورقة الغاز، الغاز الروسي الذي يمر للقارة العجوز عبر بلاده من جهة، وغاز شرق المتوسط وأمن جنوب أوروبا من جهة أخرى، يستعد لإلقاء الورقة الثالثة أمام أوروبا، والتي ألمح لها فى إحدى مؤتمراته الانتخابية سابقا، عندما قال لأوروبا عامة والنمسا خاصة: "إنني أحذركم من حرب بين الهلال والصليب"، وهو التصريح الذي قاله في أغسطس/ آب2019م رداً على قرار طرد النمسا لشيوخ أتراك، بعد أن اكتشفت السلطات الأمنية بالنمسا حقيقة عملهم لصالح جهاز الاستخبارات التركي، على غرار ما حدث في ألمانيا من قبل، وهو نفس الوتر الذي ضرب عليه الأصولي العثماني ببداية يونيو/ حزيران الماضي بعد أن قرأ سورة الفتح في متحف أيا صوفيا وإعلانه دراسة تحويل الكنيسة التاريخية من متحف إلى مسجد، وهو الوتر الذي سيلعب عليه الإسلامي العثماني أمام فرنسا مستقبلاً بعد أن نجحت في انتزاع الرئيس التونسي قيس سعيد من أحضان تركيا، وقطعت شوطاً كبيراً في نفس الأمر مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.