أقلام الثبات
يوم الخامس من يوليو/ تموز، ليس يوماً كباقي الأيام، فهو يوم الإحتلال، وأيضا يوم الإستقلال، كان الصفحة الأولى من كتاب نضال الشعب الجزائري، وأيضا أخر صفحاته التي توجت بالإستقلال بعد 132عاماً، وللكتاب مليون ونصف مليون صفحة كتبت كل منها بدماء أبناء الجزائر الأبرار، بدأ كتابتها الأمير عبد القادر بن محيي الدين، وختمها قادة جبهة التحرير الوطني، فكان الختام مسكاً.
منذ إنطلاق ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954م ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل الجزائر عام 1830م، ظهر للجميع بما فيهم جنرالات فرنسا أن الثورة في تلك المرة لن تكون مثل ما سبقها من إنتفاضات أشتعلت لفترة ثم انطفأت، بل أنها نيران ستلتهم كل من يقف ضدها، ثورة شعبية جارفة كشرت عن أنيابها بكل السبل بالعمل السياسي وبالكفاح المسلح، حتى صارت نيران الثورة تسير في كل ربوع الجزائر.
ومع كل قطرة دم سقطت في الجزائر، كانت ترافقها دموع في مصر، ومع كل رصاصة خرجت من فوهات بنادق مناضلي ثورة التحرير، كانت الاخرى تلاحقها من القاهرة، فكان في القاهرة مقر الحكومة الجزائرية المؤقتة التي تأسست في 19 سبتمبر/ أيلول 1958م، كما كانت القاهرة نافذة لجميع الانشطة السياسية والدبلوماسية للجزائر، إلى جانب وجود لجان تحرير ليبيا وتونس والمغرب أيضا، كما مثلت مصر، الجزائر في مؤتمر باندونج عام 1955م، وتمكين الجزائر من التأثير السياسي والدبلوماسي في منظمة تضامن الشعوب الافرو أسيوية، فكان هذا على الصعيد السياسي والدبلوماسي، أما على صعيد الكفاح المسلح، فان أول شحنة عسكرية تصل إلى الجزائر خرجت من مصر، كما أحتضنت مصر التدريبات العسكرية لجيش التحرير ومناضلي الجزائر.
كما مولت مصر أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية للجزائر بقيمة مليون دولار، وكانت تقدم 75% من المساعدات التي خصصتها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ 12 مليون جنيه سنويًا، وبعد تأميم قناة السويس خصص زعيم الامة جمال عبد الناصر أول ثلاث مليارات فرنك لمناضلي الجزائر، وهو الامر الذي جعل كيل جنرالات فرنسا يطفح، حتى خرج رئيس وزراء فرنسا جي موليه ليقول: "أننا أذا ضربنا جمال عبد الناصر فأنما نصيب الجزائر، ولو سقط ناصر فسوف تنتهي الحرب الجزائرية في 24 ساعة، لانه اذا ضربنا الدينامو توقف المحرك كله، ولولا ناصر لما اضطررنا الى منح الاستقلال لمراكش وتونس، ولما اصبنا بهزيمة في كل مكان، ان نظامنا مهدد داخل فرنسا نفسها بسبب جمال عبد الناصر، انهم يقولون ان جيوشنا تستعمر دولاً عربية، وانا اقول لكم ان فلسفة جمال عبد الناصر تستعمر افكار شبابنا وضباطنا، ونحن هنا لا ندافع عن شركة قناة السويس، ولكننا ندافع عن برلمان فرنسا".
هذا الأمر أستغله رئيس وزراء العدو الاسرائيلي في حينه دايفيد بن جوريون بعد ترقبه لحالة الغضب التي أصابت قادة فرنسا ليخاطب باريس قائلا: "الى أصدقائنا المخلصين في باريس عليكم أن تدركوا أن جمال عبد الناصر الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يهددكم في الجزائر"، لتشن بعدها عام 1956 فرنسا وأسرائيل وبريطانيا العدوان الثلاثي على مصر.
ولهذا أصدرت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بيانًا قالت فيه: "لا ينسى أي جزائري أن مصر الشقيقة تعرّضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية تأييدها للشعب الجزائري المناضل، ولا ينسى أي جزائري أن انتصار الشعب المصري في معركة بورسعيد التاريخية ليس إلا انتصاراً لواجهة من واجهات القتال العديدة التي تجري في الجزائر منذ ثمانية وثلاثين شهرًا، وأن الشعب الجزائري المنهمك في معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصري الشقيق وبطله الخالد جمال عبد الناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن.
عاشت العروبة حرة خالدة، وعاش العرب تحت راية الاستقلال والعزة والمجد".
وبعد نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967م، أتصل الزعيم جمال عبد الناصر هاتفياً بشقيقه هواري بومدين وقال له لم يبقَ عندي طائرة واحدة سليمة أرجو أن تُرسل لي بعض الطائرات، فأجابة بومدين كل ما تملكه الجزائر 47 طائرة حربية، أرسل لنا طيارين مصريين لاستلامهم لان الطيارين الجزائريين مازالوا تحت التدريب، وعلى أثر ذلك طلب السفير الاميركي في الجزائر مقابلة الرئيس بومدين لتبليغه رسالة من الرئيس الأميركي، وبالفعل أستقبله الرئيس الجزائري ونقل له السفير رسالة رئيس الولايات المتحدة قائلا: "أن حكومة الولايات المتحدة لا تنظر بعين الارتياح الى ارسال طائرات حربية لجمال عبد الناصر".
فأجابه هواري بومدين دون تردد قائلا: "أولا انتهى ذاك الزمن الذي كانت فيه أميركا تأمر والبلدان الصغيرة تطيع، ثانيا انتهى وقت المقابلة".
وفي حرب أكتوبر 1973م المجيدة اتصل بومدين بالسادات مع بداية الحرب، وقال له إنه يضع كل إمكانيات الجزائر تحت تصرف القيادة المصرية، وطلب أن يخبره باحتياجات مصر من الجنود والسلاح، فقال السادات للرئيس الجزائري إن الجيش المصري في حاجة الى المزيد من الدبابات، ولكن السوفيت يرفضون تزويدنا بها، فلم يتردد بومدين للحظة واحدة في السفر إلى الاتحاد السوفيتي، والتفاوض معهم لكن السوفيت طلبوا مبالغ ضخمة، فقدم لهم الرئيس الجزائري شيكاً دون تحديد قيمة المبلغ (شيك على بياض كما يقال بالعامية)، وقال لهم أكتبوا المبلغ الذي تريدونه، وأكتمل المشهد روعة بأضراب العمال الجزائريين بأوروبا للضغط على الغرب ليكف عن دعمه لاسرائيل ضد مصر.
لقد عزفت الثورة الجزائرية أروع نشيد عندما كتب شاعر الثورة مفدي زكريا نشيد "قسما بالنازلات الماحقات" ثم لحنها الموسيقار المصري محمد فوزي، وبالفعل فإن الخامس من يوليو/ تموز لخص كل معاني الاستقلال والعزة والانتماء للعروبة، فهذا اليوم مجد صنعه جيل وعاشت به أجيال، فرحم الله ابطال الجزائر الذين كتبوا تاريخ ذلك اليوم بحروف من نور، وحفظ الله جزائرنا من كل مكروه.