أقلام الثبات
تنبأ "أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي الكوفي"(303هـ - 354هـ) (915م - 965م)، المكنى بالمتنبي؛ وهو أشهر شعراء العرب، بحال أهل السلطة والقرار في لبنان، في مواجهتهم لإستحقاق داهم، يتمثل بالبلطجة الأميركية. وقال فيهم:
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ.
جربت الإدارة الأميركية في عدوانها على لبنان والمنطقة، مباشرة أو عبر وكيلها "الإسرائيلي"، مختلف الأساليب والوسائل. إلى أن لجأت إلى حرب الحصار والحجر والحرمان والإفقار والتجويع، لفرض قبول إملاءاتها وتمهيد الطرق أمام المطامع الصهيونية.
وهذا الشاعر العربي العظيم، المتنبي، الذي إعتبرت أفكاره الشعرية تنبؤات، يطل من زمانه الغابر والسحيق وكأنه يعيش معنا ويشهد تصرفات أهل السلطة، أو معظمهم؛ وهم مرتبكون في مواجهة القرار الأميركي بإخضاع اللبنانيين وإذلالهم لإسكاتهم وتحييدهم، لا بل لجعلهم في خدمة العدو الصهيوني، الذي إغتصب فلسطين ويسعى حالياً بغطاء أميركي، لإستكمال تهويد ما تبقى منها، بضم الضفة الغربية إلى الكيان المحتل. ناهيك عن مطالبه المعروفة بجعل لبنان أعزلاً أمام العدوانية "ألإسرائيلية"، التي تشهر مطامعها في أرض لبنان ومياهه وثرواته البترولية.
آخر الخطوات العدوانية الأميركية كانت قانون "قيصر"، الذي يعتبر امر مواجهته تحصيل حاصل بالنسبة لسورية، التي تتعرض لحرب عالمية منذ عشر سنوات، تشنها عليها الإدارة الأميركية ومعها كل الدول الخاضعة للنفوذ الصهيوني؛ وكذلك الدول المتورطة في حروب إستعمارية قديمة وجديدة ضد المنطقة العربية والعالم الثالث.
أما لبنان، الذي يعيش أزمات مالية وإقتصادية عميقة. فإن توسيع مروحة علاقاته الإقتصادية وقبوله عروضات تطويرها وبناء مشاريع الخدمات الملحة والواعدة، خصوصاً من دول مثل روسيا والصين وإيران، تستدعي قراراً رسمياً شجاعاً بالخروج من تحت عباءة الوصاية الأميركية والغربية. وهذا أحد أبرز عناصر السيادة وشروط تحققها، التي يتغنى بها بعض من يضحي بمصالح لبنان، خضوعاً منه لمصالح قوى الهيمنة العالمية. إلاّ أننا نشهد خروج أصوات منكرة تروج للعقوبات الأميركية. وترفض قبول العروض المقدمة من تلك الدول، حتى يصل المرء إلى حد اليقين بأن الفاسدين في مراكز السلطة في لبنان، المحتمين تاريخياً بقوى الهيمنة الأميركية والغربية، يضحون بمصالح لبنان، خوفاً من خسارتهم غطاء الحماية الأميركية، الذي يمنع إسقاط فسادهم وتسلطهم على البلاد والعباد.
ومما يؤكد وجود مصالح شخصية خلف المتمسكين برفض البدائل الشرقية للمساعدات الأميركية، ويثبت حقيقة البلطجة الأميركية، أن إصدار القانون الأميركي، الذي يتذرع بوقوع أعمال قتل وتعذيب في سورية، خلال الحرب التي تشن عليها منذ عشر سنوات، جاء في الذكرى السنوية لمجزرة "سبايكر" في العراق، التي إرتكبتها صنيعة الولايات المتحدة الأميركية "داعش" بحق العراقيين. وقتلت فيها ذبحاً ورمياً بالرصاص وإغراقاً في مياه نهر دجلة، آلافاً عدة من الأشخاص، في نهار واحد وفي مكان واحد. ووثقت الجريمة الفظيعة بالصوت والصورة. فأين "قيصر" العراقي من "قيصر" السوري؟ وأين مواقف الأصوات اللبنانية المرحبة بقيصر الأميركي، من جرائم الأميركيين في كل الأمكنة التي إعتدوا عليها وهاجموها واحتلوها، في العراق وافغانستان ولبنان وسورية وغيرها. وكذلك أين مواقفهم من جرائم "داعش" في العراق المدعومة من الجيش الأميركي. وأين عزيمتهم من هذا التحدي العدواني وهل هم صغار إلى درجة تصبح مثل هذه القضايا عظيمة عليهم؟
والواقع أن الفاسدين في التركيبة السلطوية في لبنان، هم انفسهم جماعة أميركا فيه. وهم أنفسهم يعادون بالسر والعلانية سلاح المقاومة، الذي يردع المطامع "الإسرائيلية" في لبنان. وهؤلاء ربطوا مصيرهم بقوى الهيمنة الغربية والأميركية. ولذلك يرفضون بإصرار أي شكل من أشكال التعاون مع مصالح إقتصادية بديلة، لا يرضى عنها أسيادهم وأولياء نعمتهم في واشنطن. حتى لو كان فيها إنقاذاً للإقتصاد اللبناني وإخراجاً له من هذه الأزمة الخانقة، التي أوقعته فيها مصالح حكامه الفاسدين، من المرتبطين بالرأسمال الأميركي والصهيوني.
لكن هؤلاء الذين يمارسون القوة في الداخل والمسكنة مع الخارج. ويعتبرون أن قوة لبنان في ضعفه، مقابل العدوانية الصهيونية، يتناسون أن القطة وهي عنوان الخوف والجبن، لا تتورع عن مهاجمة من يحاصرها ويهدد سلامتها، فهل هم أكثر جبناً من قطة؟ وهل علينا تذكيرهم عند كل منعطف أن من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر؟ وأن مصلحة لبنان واللبنانيين في التحرر من التسلط الأميركي ستتغلب في النهاية.