أقلام الثبات
في موقف مستغرب ولافت، عاد بعض الإطراف في لبنان الى الحديث عن التقسيم والفيدرالية، واستعارة مفردات الحرب الأهلية، وارتفع سعار الحديث المذهبي والطائفي، وعاد التهويل بالحرب الأهلية في مفارقة غير مفهومة وغير طبيعية.
وفي تحليل هذا الوضع، نجد أن هذا التحريض وطفو استعارات الحرب وشعاراتها، قد يكون نابع من أحد أمرين:
- أن يكون الفاسدون والمفسدون وناهبو المال العام قد أرادوا التعمية عن مكافحة الفساد، والانتقال من الدفاع الى الهجوم، فتمّ تحويل القضية الوطنية حول بناء الدولة وسيادة القانون، الى استعارة مفردات الحرب، والتهديد بالتقسيم، والادعاء بـ "عدم قدرة العيش مع الآخر" ، وبأن "مناطق معينة" تدفع الضرائب بينما الباقون خارج القانون وسواها...
- أن يكون الأمر، مجرد نوع من "الضغط والابتزاز" من قبل بعض الأطراف السياسية، لأطراف أخرى لتحقيق مكاسب سياسية، أو لدفعها على الموافقة على بعض الأمور التي لم تكن لتوافق عليها إلا من خلال التهويل بالحرب الأهلية أو ممارسة الضغط المذهبي والطائفي.
وبغض النظر عن الأسباب التي أعادت تلك المفردات الى الواجهة، لا شكّ أنها تدفع الى التشاؤم بقدرة اللبنانيين على بناء دولة مستفيدين من تجارب مرّة وصعبة خاضوها من المفترض أن تعلموا منها الكثير.
وفي هذا الإطار، ولكي لا ننجر لما يريده الفاسدون أو سواهم من المحرّضين على استرجاع مفردات الحرب وقذارتها، لا بد لنا أن نعيد النقاش الى جوهره، وهو ضرورة "بناء الدولة" في لبنان، أي بناء "الدولة المدنية" التي يعيش أبناؤها متمتعين بالحقوق والواجبات بدون تمييز بينهم.
تاريخيًا، بدأت مشكلة اللبنانيين الحقيقية، حين بدأ تشكيل الوعي اللبناني على فكرة "الحماية الاجنبية" للطوائف، والتي قامت على فكرة التدخل في شؤون الدولة العثمانية أو ما سمي "الرجل المريض". ثم باتت أكثر حدّة حين تمّ تطوير عقيدة سياسية "ملبننة" تقول بأن الديمقراطية في لبنان لا يمكن أن تكون ديمقراطية مبنية على حرية الفرد، بل على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في النتيجة والواقع العملي “صراع الدول الحامية لتلك الطوائف”.
وهكذا، تمّ تغييب دور الدولة على مرّ السنين، وتمّ وضع اليد على مقدّراتها، من أجل توظيفها ضمن دائرة المصالح الفئويّة والشخصيّة والمحسوبية، وباتت الطائفة هي "المعبر الوحيد" المتوفر للمواطن لممارسة حقوقه، والحصول على التوظيف والتعليم وغيرها وصولاً الى الخيار السياسي.
وعليه، لا يمكن للبنان الخروج من هذا النفق المظلم، وهذه الدوامة من عدم الاستقرار واستجلاب التدخلات الخارجية، إلا بإعادة مفهوم الدولة الى أصله، وهي التعبير عن إرادة اللبنانيين الحرّة في عقد اجتماعي يرتضونه وينظّم الاختلافات بينهم.
والحلّ يكون من خلال بدء مسيرة التأسيس لدولة مدنية، توفّر الحماية الاجتماعية والأمن للأفراد، وتمكّنهم من ممارسة حرياتهم وحقوقهم، وتكرّس قيم المساواة بينهم من دون تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو الجنس الخ.
هذه الدولة المنشودة، تستمد مشروعيتها من "حكم القانون" الذي يعني تطبيق القانون على جميع أفراد المجتمع - حكام ومحكومين- دون تمييزٍ أو استثناء.
قد يكون الطريق طويل، ولكن لا شيء يمنع من البدء بمسيرة الألف ميل الآن، على أمل أن نؤسس لأولادنا أو لأحفادنا، القدرة على العيش في "وطن" لا "مزرعة".