أقلام الثبات
لم يتعلم أهل الحكم والسياسة في لبنان من أحداث الأشهر الماضية شيئاً يذكر. ما زالوا على إصرارهم في رفض الأخذ بمعايير وطنية وأخلاقية عامة وشاملة، تضبط التعامل بين اللبنانيين، وبينهم وبين دولتهم، خصوصاً في ما خصّ شؤونهم العامة في الحكم والإدارة والوظائف وفرض حكم قانون عادل وشامل، لا يرضى بصيف وشتاء على سطح واحد.
جاءت نتائج إجتماع مجلس النواب الأخير، لتؤكد هذا الواقع. ولتخيب آمال من توقع بأن إعلان اللبنانيين رأيهم الصريح بحكامهم في 17 تشرين الماضي، قد يصلح من حال الأخيرين ويقوّم سلوكهم الذي أفسد السلطة والإدارة ونهب مال البلاد والعباد.
نموذجان صادمان حملهما تعاطي المجلس النيابي، بما هو سلطة تشريع وإنتخاب الرؤساء وتعطي الثقة للوزراء، بما يحمل هذا المجلس مسؤولية كل سلبيات الحكم والسلطة. أليس هو من نال ثقة الشعب واصواته في الإنتخابات، ليتولى تشكيل السلطة والإدارة بما يلبي حاجات ومصالح اللبنانيين؟
صورتان متنافضتان قدمهما مجلس النواب أمس: الأولى صورة نجاح المحاصصة القائمة على فكرة الدولة المزرعة، في تمريرها القانون الذي يناسبها ويلبي مطالب رعاة قطعان المزرعة، في نهب الدولة لصالح أولئك الرعاة.
والصورة الثانية، صورة الفشل في حل مشكلات حقيقية تسبب مآس لكثيرين، لم تطابق شروطها منطق المحاصصة و"عدالة" توزيعها والمقايضة الفاجرة بين الحق والباطل، ففشل المتحاصصون في الإتفاق على تهريب قانونهم بعدما غالى كل طرف في مطالبه، بما يفوق قدرة اللبنانيين على تحمل الخرق الحاصل لكل القيم الأخلاقية والأعراف الإجتماعية والمفاهيم السياسية.
في المشهد الأول، نجح مجلس نواب تحالف أصحاب المصارف وزعماء الطوائف، في تمرير "منهبة" جديدة لمال الدولة والشعب، لصالح تجار التعليم وأصحاب دكاكين التعليم الطائفي اللاوطني، في ما يسمى التعليم الخاص. ووافق على قرار مبدئي بقيمة 300 مليار ليرة لبنانية من مال اللبنانيين الجائعين والمفلسين، لتمويل مدارس الطوائف والإرساليات والأحزاب، بدلاً من توجيه هذا الدعم وغيره إلى التعليم الرسمي من مدارس وثانويات وجامعة وطنية، تحتاج إلى كل قرش لتستعمله في تعليم أبناء الفقراء ومحدودي الدخل، بدلاً من تمويل المؤسسالت الدينية وأصحاب الحظوة والنفوذ، تحت حجة دعم التعليم الخاص.
وللعلم، لبنان، من هذه الناحية، من الدول النادرة التي تعمل على تقوية نفوذ وقوة مرجعيات طوائفها على حساب الدولة، في حين أن المنطق يقول بأن كل مكونات الشعب عليها التعاون وبذل امكاناتها لبناء الدولة.
وفي المشهد الثاني، تغلبت الأطماع الإنتخابية والشعارات الشعبوية على مشروع للعفو العام، لا يخلو بلد من إقراره في مناسبات معينة، شرط ألا يشكل خرقاً للمحرمات الوطنية والسياسية والإجتماعية.
لكن في لبنان الذي تتغلب فيه المصالح الشخصية والعصبويات الضيقة على كل ما هو وطني. وتحتمي كل السلبيات واللاأخلاقيات خلف الطوائف المظلومة بمثل هذا الإستغلال الذي يمارس بحقها، يصبح من حق القاتل التمتع بالحياة أمام أعين أهل القتيل. ويصبح العميل وطنياً يجب تكريمه. ويعتبر تاجر المخدرات رجل أعمال يخدم البلاد بتجارته الزاهرة. وبالتالي يصبح إصدار قانون للعفو عن أصحاب الجنح، أو الذين سجنوا بتهم غير جنائية، فرصة للعفو عن عملاء لم يخجلوا من إشهار تعاملهم مع العدو، بل حملوا سلاحه وقتلوا شعبهم وغادروا إلى كيان العدو. وبعضهم تخلى عن جنسيته وحتى عن دينه وحمل جنسية ودين العدو. ثم يخرج عليك وبكل وقاحة من يطالب بعودة ذلك العميل المجرم إلى الوطن، من دون أي سؤال بما في ذلك الخضوع لمحاكمة تفرز البريء عن المجرم والمظلوم عن المرتكب.
ولأن مائدة المحاصصة وتوزيع أسلاب الوطن هما السائدان في مجلس النواب. ولأن تهريب العملاء من أيدي العدالة، هو من فعل أصحاب الحل والربط في الدولة، يصبح طبيعياً أن يطالب هذا الطرف أو ذاك، مقايضة العفو عن العملاء، بإخلاء سبيل من قاتل الدولة ومارس العمالة وقتل العسكريين والمدنيين، خدمة لمشروع أميركي –صهيوني لتدمير المنطقة على رؤوس أهلها، طالما أن ذلك يحفظ أمن الكيان الصهيوني الدخيل.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، يقتضي منطق المحاصصة بالتالي، المطالبة بإطلاق سراح المجرمين والقتلة وتجار المخدرات. وللمصادفة، فإن لكل زعيم طائفة رعية ومصالح. ولكل منهم هوى ومصلحة واتباع في فئة من المطلوب العفو عنهم. وآخر من قد يشملهم العفو هم مستحقوه الفعليون.
هو منطق واسلوب حكم أوقع المآسي باللبنانيين ولم تنفع مائة عام من المشاكل والإحتراب في دفع "أكلة الجبنة" من إقطاع متخلف قديم وإقطاع سياسي متجدد، إلى تبني مشروع بناء وطن، بل على العكس من ذلك، يلوح أهل الفساد والمحسوبيات بمشاريع تقسيم وفدرلة للجم أصوات المطالبين بالدولة الوطنية العادلة.