أقلام الثبات
لقد خاضت حكومة الرئيس حسان دياب، تجربتين ناجحتين، منذ إنطلاقها، بعد نيلها ثقة مجلس النواب، في شباط الفائت، فقد تصدت بحدودٍ مقبولةٍ، لانتشار وباء "كورونا"، وبإمكانات متواضعة، ووفقاً لمعايير متخذة عالمياً، باعترافٍ دوليٍ، ومحليٍ، لذا لقي أداء الحكومة ي رضا شريحة كبرى من المواطنين وإعجابها، ولا سيما عندما بدأت تواجه بـ"اللحم الحي" تداعيات وباء قصَّرت دول عريقة، وذات نظام مستقر، عن مواجهته بطريقة مرضية. والنجاح الأبرز لدياب، أو بدء سريان التغيير المنشود، من خلال تعطيل "نظام المحاصصة" في الوظائف العامة بين مكونات الطبقة السياسية الطائفية التقليدية، الذي كان سائداً في البلاد منذ العام 1992. فقد بدأت تلوح بارقة الأمل للبنانيين العطشى للتغيير، عندما سحب رئيس الحكومة بند التعيينات من جلسة مجلس الوزراء الخميس الفائت، مؤكداً رفضه لنظام المحاصصة السياسية في التعيينات، وجازماً ان حكومة الاختصاصيين، لا يمكنها ان تقبل بتعيينات لا تعتمد معايير الكفاية.
أمام هذا النهج التغييري الجديد، من المسلّم به أنه بدأت تهتز دعائم الطبقة المذكورة آنفاً، المرتكزة على أسلوب الزبائنية، في تعاطي هذه الطبقة مع أتباعها، في سبيل تعزيز هذه الدعائم. لذا حاولت هذه الطبقة لملمة قواها، وشن هجومٍ إستباقيٍ على الحكومة، من داخلها، وخارجها، قبل إنعقاد جلسة الحكومة، التي كان مقرراً فيها، إجراء التعيينات، عبر محاولة الأفرقاء التقليديين، إدخالها في أحدى "ألاعيب النهج السابق"، أي العودة الى تطبيق المحاصصة، وتوزيع "المغانم الوطيفية" على أفرقاء الطبقة المذكورة، التي أوصلت البلاد الى قعر الهاوية. فجاء موقف دياب المذكور، كأفضل ردٍ مناسب، على هذه المحاولة، ونجاحه في إحباطها، الأمر الذي يتماشى مع المزاج الشعبي، ما أسهم في توسيع دائرة المؤيدين لرئيس الوزراء اللبناني، في الداخل والخارج. فقد أثنى سفراء تنتمي دولهم إلى "مجموعة دعم لبنان" على موقف دياب حيال المحاصصة السياسية، التي أراد عدد من القوى السياسية استعمالها لكسب ما تريده من مراكز حساسة في ملاك مصرف لبنان، وذلك عبر سحب بند التعيينات من الجلسة الأخيرة للحكومة. وتوقف سفير دولة أوروبية مهتمة بمساعدة لبنان عند موقف دياب، فوجد فيه تقارباً مع ما تطالب به بلاده، وكذلك يلتقي مع مواقف دول كثيرة من الاتحاد الأوروبي وسواها من الدول الغربية. وأيد السفير أيضاً عزم دياب تقليص رواتب المرشحين لملء مراكز نواب حاكم مصرف لبنان، وأعضاء هيئة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية، بحسب ما نقلت جريدة الشرق الأوسط.
أما بالنسبة لمنظومة الحريرية السياسية برمتها، التي تناتشت الدولة وماليتها وإداراتها على مدى ثلاثة عقود، فكعادتها، فهي لا تخوض معاركها السياسية والإنتخابية، إلا تحت عناوين مذهبية، لاغير. كذلك الأمر، بالنسبة لتعزيز مواقعها في مؤسسات الدولة كافة. لذلك دفعت "الحريرية" رؤساء الحكومة السابقين، الى شن هجومٍ على الحكومة، "بنكهة مذهبية"، خوفاً من أن تفقد دورها، في ضبط إدارة الدولة العميقة، المتمثلة، بحاكمية مصرف لبنان، وقطاع المصارف، والأجهزة الأمنية وسواها، في حال تم أختيار أهل الكفاءة في "الحاكمية"، و"الرقابة على المصارف"، و"الاسواق المالية" . والأهم من ذلك، إن جلّ ما يؤرق منظومة الفساد، هو اعتماد الحكومة معيار الكفاءة والشفافية في التعيينات، لان وجود أهل الكفاءة في مواقع حساسة، قد يفضح فساد، "الحريرية"، وشركائها.
وفي شأن الهجوم على الحكومة من الداخل، أو من بعض أركان "حاضنتها" السياسية المفترضة، فقد بدأ، عندما هدد رئيس مجلس النواب نبيه بري وأركان حركة أمل، بتعليق مشاركتهم في الحكومة، ما لم تتحرك لإعادة المغتربين العالقين خارج البلاد في ظل تفشي وباء فيروس كورونا.
وعلى المنوال عينه، تبعه النائب السابق سليمان فرنجية، الذي هدد بدوره أيضاً بالاستقالة من الحكومة، في حال لم يتم الاتفاق على التعيينات ، بما فيها حصته منها. غير أن دياب نجح في تخطي كل الألغام والعوائق، التي وضعت في طريقه حتى الساعة، بدعم من حزب الله، الذي عبر بوضوحٍ أيضاً عن رفضه "للمحاصصة"، ومساندته لدياب، من خلال ما جاء في بيان كتلة الوفاء للمقاومة في اجتماعها الأخير في الأيام القليلة الفائتة، الذي أشار الى أن الحكومة اليوم أمام تحد صارخ يمس رؤيتها الاصلاحية، وعليها ازاء ملف التعيينات المالية المطروحة أن تجهد لاعتماد آلية نوعية من أجل اختيار أصحاب الكفاءة والخبرة والنزاهة، بعيدا عن المحاصصة المعتادة، وذلك لضمان رقابة دقيقة على أداء المؤسسات النقدية والمصرفية في البلاد”.
حقاً، لقد أثبت سلوك دياب أنه رجل دولةٍ من الطراز الأول، فقد قبل التحدي، في ظروف غير اعتياديه مملوءة بالالغام محفوفة بالمخاطر، يوم وافق على تسميته رئيساً للوزراء، ثم نجاحه في تأليف الحكومة. وأسقط بذلك كل المراهنات، على تراجعه، أو عجزه عن التشكيل، أو حتى عدم نيل حكومته الثقة في المجلس النيابي.. ويبقى الجهاد الأكبر لدياب وحكومته، هو إنقاذ الوضعين الاقتصادي والمعيشي، ومواجهة ظغيان "المنظومة المالية المستفرسة".