القاهرة ـ الثبات
في ظل ما تعيشه المنطقة من حرب على كل رقعة فيها، بعد أن جهز الأميركي الأرض فى العراق ولبنان كي تكون نقطة انطلاق ضد إيران، وصعود داعش من نيجيريا الى تشاد والنيجر ومالي التى تمثل البوابات الخلفية لدول شمال افريقيا، إلى جانب تحول مياه شرق المتوسط إلى نسخة ثانية من مياه الخليج العربي المشتعلة، في ظل أتفاق الكبار على أن تظل كل من أزمة سوريا، اليمن، ليبيا مربوطة بمسمار أسمه إدلب، طرابلس، الحديدة، يجعلنا من كل ما سبق نعيد قراءة التاريخ بشكل جديد وأكثر عمقا، كي نفهم أكثر ما يحدث الأن، فالتاريخ دائما ما يعيد نفسه.
مع مطلع القرن الخامس عشر الميلادي كان الأسطول البحري البرتغالي يصول ويجول فى محيطات وبحار العالم، وأصبح متحكما تماما فى أهم الطرق البحرية التجارية بالعالم وقتها، وبسبب سياسة البرتغال المعروفة بتضييق الخناق على مستعمراتها وقعت الخسارة على تجار مدينة البندقية الأيطالية مما جعل الأخيرة تبحث عن حل بعد أن أزدادت خسائرها بسبب ركود بضائعها، فأرسلت وفدا الى مصر لكى يقنعها بأن تقوم بتخفيض الضرائب التى تفرض على البضائع الأيطالية التى تستقر بمصر لتعود إلى منافسة البرتغال مرة أخرى، لكن مصر المتضررة أيضا كانت تبحث عن حل جذرى، وكان هدفها أكبر من بيع التوابل والعطور والأقمشة والأخشاب، إذ كانت تبحث عن سيادتها فى أعالى البحار، ولكن كيف وسطوة اسطول البرتغال تمتد حتى سواحل الهند وتهيمن على كل من موانئ جاول وكوزيكهود وكانور وجوجارات بالهند.
في عام 1498م وصل فاسكو دى كاما إلى الهند كي تصبح للبرتغال الكلمة العليا على سواحلها، وتحالفت البرتغال مع مملكة كوجين، لكي تؤسس البرتغال بعد ذلك لمقراتها بكجرات، وفى عام 1505م أرسل ملك البرتغال مانويل الأول تعزيزات عسكرية ضخمة للامبراطورية البرتغالية الوليدة بسواحل الهند بقيادة نائبه دوم فرانسيكو دى الميدا، وبعدها بعامين أي فى عام 1507م قامت البحرية البرتغالية بقيادة أفونسو دى البوكرك بغزو على مدخل البحر الاحمر ومضيق هرمز حتى باتت كل مداخل المنطقة البحرية بيد البرتغال وحدها، فصار البرتغاليون وقتها فى غاية النشاط بمدينة كوزيكهود الهندية، بالرغم من أن مدينة جوجارات الساحلية كانت أهم بالنسبة للتجارة بين الشرق والغرب، حيث كانت تمثل معبرًا هامًا للتوابل والبخور والبضائع التى تمر من الصين الى مصر وبلاد الشام.
كانت مصر والشام وقتها تحت حكم المماليك، ولم يكن لديهم خبرة كبيرة فى الملاحة البحرية، فبدأت مصر بأستيراد الأخشاب عبر البحر الأسود لبناء الأسطول الذى سيخوض المعركة ضد البرتغاليين، ولكن بتحريض أوروبي قام فرسان القديس يوحنا الذين عرفوا فيما بعد بأسم "فرسان مالطا" بمهاجمة قوافل الأخشاب المتجهة الى مصر، ولم تسلم أى قافلة من عمليات القرصنة الممنهجة من الصليبيين، فكان بالكاد يصل نصف الكميات المطلوبة من الأخشاب لكي تنقل بعد ذلك على ظهور الجمال الى ميناء السويس البحرى ليبدأ تجميعها تحت إشراف نجارين مهرة من مدينة البندقية الإيطالية أرسلوا خصيصا بعد أن علمت البندقية نية مصر تجاه البرتغال.
فلم يكن غريبا على أيطاليا التى ولد بأشهر جزرها وهي جزيرة صقلية، أعظم قائد فى التاريخ الفاطمي الا وهو أبو الحسن جوهر بن عبد الله، المعروف بجوهر الصقلي مؤسس مدينة القاهرة وباني جامع الأزهر الشريف ومن أقام سلطان الفاطميين في المشرق وفاتح بلاد المغرب أن تتعاون مع مصر، كما أن جزيرة صقلية نفسها فى القرن التاسع الميلادى كانت أمارة فاطمية.
أنتهت مصر من بناء أسطولها البحرى الجديد، وأخيرًا بدأ يتحرك الأسطول المصري في فبراير/شباط 1507م تحت قيادة الأمير حسين الكردى الذى كان قائداً عسكرياً أيام السلطان قانصوه الغوري، لكى تضع مصر حدا للتوسعات البرتغالية فى المحيط الهندى، حتى وصل الأسطول المصرى إلى ميناء ديو عام 1508م، وتكونت حملته العسكرية من 6 سفن حربية و6 قطع بحرية ضخمة تحمل 1500 مقاتل برفقة سفير مدينة كالكوت الهندى، ولمعاملة البرتغاليين السيئة لأهالى الهند قام السكان المحليون الهنود مدعومين بقوات عربية فى عام 1507م بحصار كانور وصد قوات برتغالية التي أغارت على المدينة، الى أن جاءت "معركة ديو البحرية" بين البحرية البرتغالية والبحرية المصرية فى 3 فبراير/شباط 1509 م، والتى كان لها أكثر من بعد أستراتيجي وتاريخى، وكان من المخطط أن يرافق الحملة العسكرية المصرية القائد البحرى مالك عياذ وهو جنرال عسكرى مُحنك من أصل روسى، عمل تحت إمرة سلطان مدينة كامباى الهندية، وكان حاكمًا لميناء ديو، كما كان من المفترض أن ينضم الأسطول البحرى إلى حاكم كالكوت قبل أن يشن هجمات على القواعد البرتغالية على الساحل الهندى، لكن كان حسين الكردي قائد القوات المصرية قد تحرك.
رابضت سفن القوات البرتغالية بقيادة لورنسو دوم فرانسيسكو دي ألميدا (نجل نائب ملك البرتغال على الهند فرانسيسكو دي ألميدا) بميناء جاول، أما باقى الأسطول فأبحر شمالا لحماية السفن البرتغالية التجارية من هجمات القراصنة، ثم تحرك الأسطول المصرى المملوكى قبالة سواحل ميناء جاول وأشتبك مع القوات البرتغالية لمدة يومين متتاليين، فألقت سفن القائد مالك عياذ بثقلها فى المعركة، وبدأت تتساقط سفن الاسطول البرتغالى واحدة تلو الأخرى، حتى ترك البرتغاليون باقي سفنهم تغرق في مدخل الميناء ومعهم قائدهم لورنسو دي الميدا، وأنتهت تلك المعركة بأنتصار ساحق للقوات البحرية المصرية، ولكن سرعان ما أستعادت البرتغال توازنها بعد أن خطط نائب ملك البرتغال فرانسيسكو دى الميدا جيدا لردع المصريين وللثأر من مقتل أبنه لورنسو، فمدينة ديو لم تكن مجرد مدينة عادية وقتها، ولكن كانت مركز تجارة حيوي بين الهند والغرب، فهي الطريق التي انعشت البرتغال ثم المملكة البريطانية فيما بعد.
حركت البرتغال سفنها الضخمة المعدة بالمدافع وأعادت فرض سيطرتها على خطوط الملاحة بالهند بعد الحاق الهزيمة بالجيش المصرى، وهى المعركة التى غيرت شكل الصراع بين الشرق والغرب الذى كان مشتعلا وقته، ليس فى بيت المقدس، إنما في موانئ وسواحل الهند بحكم أهميتها التجارية والأقتصادية فى تلك الحقبة التاريخية.
ولان التاريخ يعيد نفسه، كان يجب إعادة قراءته وإسقاطه على ما يجري حاليا، فى ظل ما يشهده العالم من حرب تجارية وأقتصادية تزداد كل يوم شراسة، كي ندرك أبعاد قرارات تتخذ كل يوم من القوى العالمية والأقليمية وبنوك ومصارف دولية، كما كان علينا أن نذكر تلك الحقبة الزمنية وما بها من صراع شرس بين الشرق والغرب ليس من أجل بيت المقدس فقط ولكن من أجل التجارة والأقتصاد، الذي يبقى السبب الحقيقي لأي صراع، ونحن الأن نشهد مرحلة جديدة من ذلك الصراع القديم الحديث مع تدشين الصين لخط الحرير، فالفترة التى يعيشها العالم حاليا تشهد نفس الصراعات ولنفس الأسباب أيضا، سواء كان الصراع هنا على موارد الطاقة، أو هناك على طرق الحرير والتجارة، فكثير من الليالي الحالية تشبه أيام البارحة، وكثيرا من معارك الغد ستكون تكرار لمعارك الأمس.
وفي قراءة التاريخ سنجد أجابات أكثر عمقا لمشاهد عديدة مثل سبب أعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب التجارية على الصين، ثم على دول الأتحاد الأوروبي، ولماذا تحرك الأميركي لوقف أمدادات خطوط السيل الروسية للغاز تجاه أوروبا، وكيف جاء رد فعل بوتين لكسب أكبر بأوروبا (فرنسا والمانيا) عبر ورقة الأقتصاد والتجارة، وحينها أيضا سنعلم لماذا إنحازت المانيا وفرنسا لصالح أيران ضد الولايات المتحدة، ولماذا إنحازت فرنسا والمانيا لقطر بشكل واضح منذ اللحظة الأولى لأعلان الرباعية العربية مقاطعة قطر، كي لا تكون هزيمة قطر أمام السعودية هزيمة لهم أمام الأميركي فى الشرق الأوسط، فى ظل كم المصالح الأقتصادية التى تربط الدوحة بفرنسا والمانيا، ولا يخفي على أحد أن التجارة والأقتصاد هما من المحركات الأساسية للحرب الدائرة الحالية بالأقليم، وهي الحرب التى لم يعد نتيجة حسمها مقتصرا على السلاح فقط، فالهدف من الحرب ليس تصفية رئيس بعينه أو نظام دون غيره، بل أن هدف الحرب الخفي، وهو ما في باطن الأرض، فى ظل أنتهاء أخر أحتياطات القارة العجوز من الغاز الطبيعي ببحر الشمال، وفى ظل رغبة الأنجليزي فى تحويل شرق المتوسط الى نسخة ثانية من الخليج العربي، قبل أن تخرج إستكشفاته بعيدا عن أعينه، وهى مهمة السفن البحرية البريطانية المرابضة في سواحل قبرص ومالطا، وأن كانت ايطاليا هي ذيل المحور التركي القطري المناهض للدولة الليبية، فبريطانيا هي عقل ذلك المحور، ومن هنا تأتي أهمية الأجتماع المغلق الذى دار أول أمس بين الرئيس السيسي ورئيس وزراء بريطانيا بلندن.
فإن كان التواجد العسكري الروسي المتنامي فى الشرق الأوسط وسلاحه المتزايد بين أيدي جيوش المنطقة أمر مزعج للاطلسي، فأرقام حجم الصادرات الصينية تطير النوم من عقول الأقتصاديين بالولايات المتحدة، ولذلك تخوض واشنطن الآن مرحلة جديدة من الحرب العسكرية والإستخباراتية ضد روسيا فى القوقاز والبلطيق والشرق الأوسط، وحرب تجارية ضد الصين في كل البحار والمحيطات والموانئ فى العالم.
نعم أنها حرب تجارية أقتصادية فى المقام الأول قبل أن تكون حربا سياسية إستخباراتية، فالأقتصاد هو من حرك السياسة ووجه بوصلة أجهزة الإستخبارات، وهنا أتذكر شعار حملة إنتخابية للرئاسة الأميركية عام 1992م، تمكن من خلالها محامي أميركي في الأربعين من عمره أسمه بيل كلينتون أن يهزم رئيساً مخضرما بحجم جورج بوش الأب الذى جاء إلى كرسي الرئاسة بعد أن مكث بمنصب نائب الرئيس لمدة ثمانية أعوام، وقبلها شغل منصب مدير وكالة الإستخبارات المركزية، وهو من جاء إلى كل تلك المناصب من بيئة مالية نفطية قلّما خلت شركة بارزة من شركات النفط من أسمه أو أسم أحد أبنائه (جورج، جيب، روبين، نيل، دوروثي، مارفين) كعضو في مجلس إدارتها أو مساهم كبير فيها ، وكان شعار حملة بيل كلينتون يتلخص فى أربع كلمات فقط هي "إنه الأقتصاد أيها الغبي".