أقلام الثبات
عندما إنتفض اللبنانيون ضد سلطة الفساد الحريرية، في السابع عشر من تشرين الأول 2019، كان من الشعارات المتداولة: "شارع واحد وليس شارع مقابل شارع"، لكن النتيجة بعد حوالى مائة يوم على هذه الإنتفاضة، التي يسميها البعض "ثورة" والبعض الآخر يسميها "حراكاً"، أنها أصبحت بحكم واقع الحال شارعين غير متقابلين حتى الآن وإن كانا متقاطعين، لكل منهما بوصلته الخاصة وعدوه المختلف. وباالتالي، فإن المسيرة إذا استكملت بهذه الوتيرة ستصل إلى شارعين متقابلين وليس بالضرورة متصادمين.
فمنذ الأيام الأولى لإنتفاضة اللبنانيين على إجراءات حكومة سعد الحريري الضريبية والإقتصادية، كان واضحاً أن هناك من إنتفض من الم المعاناة وسوء الأحوال وإهمال الحكومات المتعاقبة، التي كان جل هموم اعضائها عقد الصفقات وجني الثروات والتواطوء مع مشاريع افقار لبنان واللبنانيين؛ وتسليط سيف الفاقة والديون عليهم، لتحقيق مصلحتين، الأولى مصلحة الفاسدين والسارقين للمال العام بجمع ثرواتهم على حساب الوطن والشعب.
والثانية، لإجبار اللبنانيين على الخضوع للإملاءات الأميركية، الصريحة في مطالبها بسرقة قسم من الثروة النفطية اللبنانية التي لم تستثمر بعد من قعر مياهنا الإقليمية، لتقديمه "خوة" للعدو الصهيوني. وربما لتقديم قسم آخر للأميركي، على غرار ما يجري في بلدان الخليج النفطية. وكذلك الزام لبنان باعادة رسم حدوده مع فلسطين المحتلة، بما يلبي المطالب "الإسرائيلية"، بما في ذلك التخلص من المقاومة وسلاحها الذي شكل ويشكل عنصر ردع للعدوانية "الإسرائيلية" التي لا يمر يوم إلا وتطال لبنان بتعد على أرضه وسمائه ومياهه.
كان واضحاً منذ البداية، أن بعض المنتفضين راهن على "وطنية" أحزاب بعضها كان ما يزال في السلطة. وبعضها الآخر لم يغب عن السلطة إلا مؤخراً؛ وهم ممن مارسوا الفساد وجمعوا المال الحرام. راهن المنتفضون على الإستقواء بهؤلاء، في مواجهة سلطة لا تخجل من فسادها. لكن الطبع غلب التطبع وإذا بالإنتفاضة تنحرف وتتحول إلى "ثورة" شتائم وعهر وتعد على المواطنين؛ وقطع لطرقات تنقلهم إلى بيوتهم وأشغالهم؛ وكأن "ثوار" تلك الأحزاب يعاقبون اللبنانيين على رفع أصواتهم في وجه الفاسدين.
منذ ذلك الوقت، علت أصوات تحذر قوى الحراك الشعبي الشريفة، من مغبة تشاركها الساحات مع ميليشيات تلك الأحزاب التي خسرت أكثريتها النيابية في الإنتخابات الأخيرة، فهذه تريد تحقيق إنقلاب سياسي في البلاد، بركوبها موجة الإحتجاجات الشعبية، في حين أنها من أبرز مسببي المآسي التي أصابت اللبنانيين. وهي تتماهى مع الضغوط والمطالب الأميركية و"الإسرائيلية"، لأنها تطلب الحكم والثروة والنفوذ بأي ثمن.
مع مرور الوقت، تأكد للثائرين على الفساد، أن حلف الفاسدين في السلطة وخارجها لا ينفصم. وأن مافيا المال والأعمال من سياسيين وأصحاب مصارف يتجمعون في حزب واحد، هو حزب سراق المال العام وإن إختلفت تسمياتهم السياسية وألوانهم الطائفية. ولذلك، عندما جرى تصويب البوصلة وتوجيهها نحو العصب الذي يجمع الفاسدين مع اللصوص والمتسلطين؛ وهو المصرف المركزي المتحكم بأموال اللبنانيين وشركائه من دكاكين المال والصفقات المشبوهة، المسماة مصارف، ما إن امتدت اليهم أيادي الشبان الغاضبين على البطالة التي يرزحون فيها؛ والرافضين للذل الذي يتعرض له اهاليهم عندما يريدون تحصيل بعض إيداعتهم، حتى إنتفضت طبقة الفساد من كل الإتجاهات.
تداعت طبقة الفاسدين بصوت واحد، دفاعاً عن حاكم مصرف لبنان وعن المصارف شريكة السياسيين في نهب اللبنانيين. فكانت ملحمة قمع وعنف واعتقالات، لم يتعرض لمثلها قطاع الطرق منذ أن بدأوا تعدياتهم طوال الأشهر الثلاثة الماضية. والملفت، أن الجيش اللبناني ترك لوحده "يقلع شوك" الإحتجاجات طوال تلك الأشهر، أما قوى الأمن التي يسميها البعض "ميليشيا تيار المستقبل الرسمية"، فتولت للمرة الأولى ولوحدها قمع المنتقمين من المصارف والمتظاهرين أمام مصرف لبنان. وكذلك قمعت بشدة وعنف لافتين الذين تظاهروا مطالبين باطلاق الموقوفين لدى قوى الأمن. في حين لم نشهد أي تحرك جدي لجماعات قطاع الطرق تضامناً مع المقموعين والمعتقلين. واكتشف الذين صححوا بوصلتهم أن "رفاقهم" من قطاع الطرق تركوهم لوحدهم أمام بطش قوى سلطة المال. فهل نشهد تحولاً نحو ثورة حقيقية تتصدى للفاسدين ولتحالف راس المال وزعماء الطوائف، يجبر الحكومة الجاري تشكيلها، أوتلك التي قد تحل محلها، على تغيير المسار الإقتصادي وجعل الإقتصاد والمال في خدمة البلاد والعباد وليس العكس؟