أقلام الثبات
كانت روسيا السبب الرئيسي فى الجولة الأخيرة من الحرب الليبية بدعمها للقوات المسلحة العربية الليبية وقائدها المشير خليفة حفتر، وهو ما جعل الأميركي يغضب من حفتر ويطلق أردوغان مسعورا عليه، ثم تراجعت روسيا خطوة إلى الخلف، وشاهدت كيف يحرك الأميركي أردوغان، كي يتكرر أمر سورية فى ليبيا، فدخل الروسي على خط الاحداث كما دخل إلى سورية، وعاد بوتين ليدعم أردوغان من جديد، كي يستفاد من ما وراء التدخل التركي في ليبيا، ويخرج الأطراف الأوروبية الفاعلة (فرنسا، ايطاليا) وكذلك العربية (مصر، الامارات) من الميدان الليبي، ويبقى على من يريده (المانيا) كما هو محدد في عقل بوتين.
وأردوغان وبنفس الدهاء عمل على تحقيق مصالح كل من الأميركي والروسي معا، وهو نفس ما قام به في سورية، كي تكون تركيا هي الشوكة والسكينة التى سيقتطع بها كلا من الأميركي والروسي معا تورتة ليبيا.
وبالطبع طلب أو بالأدق أمر وقف أطلاق النار جاء ثقيلا جدا على القيادة العامة للجيش الليبي، فهي من رفضت علنا وقف أطلاق النار وبعدها بثلاثة أيام قبلت الأمر، أذا الجيش، وافق على وقف أطلاق النار مجبرا، والأسوأ من ذلك فرض أردوغان كأمر واقع فى أي معادلة مستقبلية لليبيا، بعد أن جاء عنوان الهدنة نفسها بـ "وقف أطلاق النار برعاية روسية تركية"، قبل أن تتم دعوة أردوغان الى مؤتمر برلين بعد أن كانت تركيا خارج المشهد تماما.
وأكبر دليل على أن تلك الهدنة ليست فى صالح الجيش الوطني الليبي وجاءت بمنزلة طوق نجاة لحكومة الوفاق، هو توقيع وفد حكومة الوفاق على وثيقة تحديد شروط الهدنة بمجرد وصوله لموسكو يوم الاثنين 13يناير/كانون الثاني، بينما طلب حفتر منحه مهلة قبل التوقيع في نفس اليوم، فمنحته روسيا مهلة حتى صباح اليوم التالي (يوم الثلاثاء 14يناير/كانون الثاني)، قبل أن يغادر حفتر موسكو عائدا إلى مدينة بنغازي صباح نفس اليوم، من دون التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، بسبب عدم إدراج بند ينص على تفكيك المليشيات، ورفضه لأي دور تركي في ليبيا..
في 11يناير/كانون الثاني أستلمت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل خريطة "مؤتمر برلين" ونتائجه وأهدافه من الرئيس الروسي خلال زيارتها لموسكو، وبذلك يكون بوتين قد أدخل أردوغان إلى الساحة الليبية على حساب مصر والإمارات، وأدخل المانيا على حساب ايطاليا وفرنسا، وجعل من مؤتمر برلين أهمية، ووضعه على مسار أكثر جدوى من مسار مؤتمر بون بالمانيا 2011 بخصوص افغانستان.
أردوغان بدوره لم يفوت الفرصة وأستغل الأمر فى الداخل التركي، فبعد وقف أطلاق النار فى ليبيا منتصف ليل السبت/الاحد، أعلنت وزارة الداخلية التركية صباح الأحد شن عملية "كابان2" ( بمعنى الفخ) ضد عناصر حزب العمال الكردستاني بولاية هاتاي أو بالأدق لواء الأسكندرون المحتل.
الرئيس الروسي إذا، دخل الملف الليبي ليوزع الأدوار من جديد، وأخرج العرب كما أخرجهم من سورية، وفرض أردوغان فى المعادلة الليبية، وأردوغان ضرب بحجر واحد مجموعة عصافير وليس عصفورا واحدا، وصارت له تونس بوابة خلفية جيدة، بعد أن ادرك أن البحر والجو مغلقين بوجهه بفضل القوات المصرية، فالعودة لتونس جاءت عبر راشد الغنوشي الحاكم الفعلي لتونس، الذى تولى مهمة أعداد زيارة أردوغان لتونس، وأجتمع بأردوغان فى أسطنبول في 11يناير/كانون الثاني، بالتزامن مع وجود فايز السراج في اسطنبول، كما ضمن أن الجزائر لن توافق على سيطرة الجيش الوطني على العاصمة طرابلس، ولرفض الجزائر سيطرة الجيش على سائر التراب الوطني الليبي أسباب كثيرة أولها، أن أبقاء الغرب الليبي في الفوضى كما هو الحال عليه الآن يمنحها الكلمة العليا في حوض غدامس النفطي، ثانيا الجزائر ترى فى أنتصار حفتر أنتصارا لقوة أقليمية قديمة تنظر إليها الجزائر بعين التنافس، وهي مصر، وقوى أخرى جديدة لا تهضمها الجزائر، ألا وهي الإمارات.
أخيرا وليس أخرا يطرح المشهد الحالي تساؤلات عدة أبرزها :
هل سيستغل التركي الهدنة ويسحب عناصره الإرهابية المحاصرة من مناطق المواجهة الى مناطق أكثر أمانا، كي تلتقط المليشيات في طرابلس ومصراتة أنفاسها لقلب المعركة على الجيش الليبي فيما بعد ؟
والسؤال الأخطر هل تكون المقايضة في تلك المرة بين أردوغان وبوتين، عبارة عن تسليم إدلب لبوتين مقابل تسليم طرابلس لأردوغان ؟
وأن كانت كل المشاهد السابقة تعطيك انطباعا بأن فلاديمير بوتين وحده بات الأمر الناهي فى ليبيا، فأين الأميركي اذا ؟!
ومهما كانت نتيجة الهدنة، فمن الصعب أن ترسم الشكل النهائي لليبيا بحكم أعتبارات كثيرة، أولها أن الهدنة نفسها مهددة بعدم الالتزام بها، فإن كنت تستطيع ضمان مؤسسة نظامية كالجيش الوطني الليبي، فكيف ستضمن تصرفات مليشيات جاءت من سوريا بعد أن أحترفت خرق أي هدنة هناك.
في كل الحالات الكلمة ستبقى في الميدان الليبي للسلاح، فالمعارك لا تحسم الا بالسلاح، وما يدور هو معركة وليس منافسة في أنتخابات أو غيره بين حفتر والسراج، والسلاح لم يلق برصاصة الحسم وكلمته الأخيرة بعد.