أقلام الثبات
بينما لا تزال تونس غارقة في ازمتها الاقتصادية الخانقة , لم يكن بصيص الامل في تمرير حكومة الحبيب الجملي في البرلمان اقل قتامة رغم ان الرئيس المكلف استغرق شهرين للوصول الى "حكومة كفاءات " لا تعكس الطيف الحزبي الفسيفسائي , اذا لم تتجاوز الاصوات الممنوحة لها 72 نائبا ,اي اقل من الحاجة الضرورية لتمر ب37 صوتا ,واعترض 134 نائبا على تزكية الحكومة ،وقد تسبب هذا الحجب الكبير للثقة بخيبة أمل ،لا سيما في حركة النهضة التي حازت المركز الأول في الانتخابات برصيد وصل الى (54 مقعدا).
لقد راهن الجملي ان يجامله حزب "قلب تونس" برئاسة نبيل القروي الذي حل ثانيا في منافسة الرئيس قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية ,من خلال توزير بعض شخصيات الحزب , الا ان حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر , سيما وان قلب تونس اتهم اداء الجملي في التشكيل بالسعي الى شق الحزب , وان بعض الشخصيات الوزارية لا تحوز على الكفاءة المطلوبة التي تؤهلها للعمل السياسي او الاقتصادي , لا بل ان البعض مؤشر عليه بعلامات الفساد .
لم تشهد تونس في تاريخها مثل هذه التجربة - اي فشل حكومة في نيل ثقة البرلمان - منذ الاستقلال , وتاليا منذ "ثورة الياسمين" التي اطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي , وهذا الامر سيلقي بثقله على رئيس الجمهورية المنتخب حديثا ,فهم بين خيارين لا ثالث لهما , فاما ان يعيد تكليف الجملي ويمنحه فترة شهر لتشكيل الحكومة , واما ان يعمل على تكليف شخصية اخرى , تحوز على تاييد كتلة نيابية اكبر , وهذه الاخيرة عملت بعض الاحزاب , وعمادها "قلب تونس"لتشكيلها وباتت تضم 92 نائبا , لكن الذي سيكلف يحتاج الى 109 اصوات كي تنال حكومته الثقة التي تؤهله للانطلاق .واذا لم تجتز الحكومة الاختبار الالزامي , فان الرئيس مضطر الى حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة , وما لذلك من انعكاس على رئيس الجمهورية من سلبيات يعمل البعض على تحضيرها في جو مشحون , ليس الانتقام بعيدا عنه . وربما سيؤدي ذلك الى الاطاحة بالمعادلة القائمة ان اي شخصية قيادية أخرى يجري تكليفها لتشكيل الحكومة المقبلة في مدة أسبوع،تستوجب البلاد ان تنتظر شهرا بالاضافة الى أسبوع ,وربما تصل المدة إلى ستين أو سبعين يوما حسب قدرة هذه الشخصية على حل المعضلة الحزبية التي يعاني منها مجلس النواب لتشكيل حكومة لا توأد قبل ان تولد، وإذا فشل المكلف بتشكيلها مرة أخرى سواء عن طريق عجزه في جمع كلمة الأحزاب, التي يرى أنها يمكن أن تشكل حكومة, أو في اختيار وزراء من الأحزاب إن لم تتفق هي نفسها على الاختيار, وإما عن طريق عدم نيل الثقة من البرلمان، ولكن إذا نجح في كل ذلك تكون تونس قد اجتازت الحقبة الأصعب في تاريخها الحديث، بيد ان لجؤ الرئيس التونسي قيس سعيد إلى حل البرلمان وإقامة انتخابات جديدة امر غير مستبعد في حال الفشل بتشكيل حكومة، الامر الذي قد يغير المعادلات الجارية وتحدث المفاجآت وتبدل خارطة مجلس النواب وقد تفقد النهضة التي نالت الأغلبية من قبل، أغلبيتها هذه المرة، اذا لم تقنع الجمهور بصوابية ادائها واغتنامها الفرصة مجددا وبالتالي يبحث الناخب التونسي عن حزب آخر يرى فيه تطلعاته في حل الازمة السياسية والاقتصادية الامر الذي سيعقد الامور ايضا لتشكيل حكومة ربما لن تترجم الى واقع قائم إلا بعد شهور ,يزداد فيها الوضع الاقتصادي تدهورا .وهذا السياق الخطير يستوجب لتلافيه , تضحية ولو نسبية من التموضعات الحزبية، الايديولوجية , التي هي من اطاح بحكومة الجملي قبل ان تبصر النور .
على الرغم من الحالة القاتمة نسبيا , فان التجربة التونسية في الديمقراطية البرلمانية يمكن ان تشكل انموذجا , او على الاقل حافزا يبنى عليه في الجوار الملتهب.